شقيقة أم فصام!؟


غسان الجباعي

أعلم أن نقد الذات والسخرية منها أمر صعب. كانت لدي -دائمًا- رغبة شديدة في السخرية من الآخرين، وبخاصة أولئك النجوم؛ مشاهير المسرح والسينما والتلفاز، الذين كانوا –ذات يوم- أعضاء مغمورين في فرقة الدبكة الشعبية، أو عملوا في التلفزيون صبابي قهوة وشاي، “مع احترامي لجميع الصبابين والصبابات”، وتحولوا فجأة، وبقدرة قادر، إلى مخرجين مشهورين في عالم التلفزيون، رغم أنف نقابة الفنانين والوسط الفني والثقافي! أو أولئك الفنانين المخبرين الذين تُفرض أسماؤهم على شركات الإنتاج والمخرجين، من أعلى السلطات الأمنية.

قد يظن بعضهم أني أغار، وأن عيني ضيقة، كما يقال؛ فلكل مجتهد نصيب، ولكل موهوب أو موهوبة معجب وحبيب. من قال إن “الإبداع” يتوقف على حملة الشهادات والاختصاصيين فحسب!؟ بعضهم ينعم الله عليه بذكاء فطري وجسد طري، وموهبة طارئة ودقة ملاحظة وحنكة عملية، تجعله يتعلم التمثيل والإخراج بلا معلم، ويصبح معلمًا خلال أسبوع، يعرف من أين تُؤكل الكتف، وكيف يغدو نجمًا ساطعًا في الليل وفي النهار، ويحتل الشاشات الصغيرة والكبيرة على مدار24  ساعة.

وبما أني لا أجرؤ على السخرية منهم، بسبب شراستهم وعلاقاتهم المعقدة، بالدولة العميقة، وبالوسطين الفني والأمني! وكي لا يقال إني أتمسح بهم وأطلب الشهرة عن طريق هجائهم، فقد قررت أن أسخر من نفسي؛ كوني كاتبًا ومخرجًا مسرحيًا مختصًا، ولا أخاف على حالي إن هجوت نفسي! لكني لم أجرب السخرية مني قبل اليوم، ولست متأكدًا بعد، إن كنت قادرًا على فعلها -بتلك السهولة والخبث- كما أفعلها مع الآخرين. وسرعان ما تبين لي أن هجاء الذات مهمة صعبة، إذا كان المرء مغترًّا أو معتزًّا أو مؤمنًا بنفسه، لدرجة أن عقله لا يسمح له بالوصول إلى هذا المستوى من الرعونة والتهور.

الحديث هنا يدور حول خطيئة بحق الفن والفكر والثقافة؛ ومن يملك حق السخرية من هذه الألوية الثلاثة وأصحابها المبدعين الذين لا يقبلون النقد، حتى لو كان دعابة أو مزاحًا!؟ من يملك الجرأة على مجرد الاقتراب من عش الدبابير هذا، الذي يعمل في الشأن العام، ويدافع بشراسة عن “سمعته” ومكانته وأخلاقه وذاته المتورمة، بالقوة والشراسة نفسها التي يدافع بها عن الوطن والقيم العليا للإنسانية (الاجتماعية والأخلاقية والوطنية والأممية)، وله جمهور طويل وعريض وعميق، ويده طائله وخفيفة ومتشعبة؟!

لكن الفرصة –بعد ست سنوات من القتل والتدمير والتهجير- باتت مواتية، والعواقب لن تكون وخيمة أكثر مما هي عليه الآن، والجريمة سوف تسجل ضد مجهول، أو تندرج ضمن بند الاعتراف الكنسي، أو النقد الذاتي “المازوشي”. فمن يستطيع أن يدعي عليّ إن سخرتُ من ذاتي أو جلدتها أو نحرتها!؟

القصة -بكل بساطة وحزن- تدور حول إحدى مسرحياتي، وهي “الشقيقة” التي كتبتها في المعتقل، وتحدثت فيها عن تجربة سجن تدمر الوحشية. إنها من أجمل وأعز ما كتبت، وقد دونتها بخط دقيق على ورق السجائر، وتمكنت -على الرغم من المخاطر- من تهريبها، في إحدى الزيارات، داخل منحوتة خشبية صنعتها خصيصًا لهذه الغاية.

لكن ما إن خرجت من المعتقل؛ “حتى خنتها وتنكرت لها”، وحوّلت مكان حدوثها إلى سجن إسرائيلي؛ ثم قمت فوق ذلك بإخراجها لصالح المسرح الوطني الفلسطيني، وتقديمها على مسرح الحمراء في دمشق سنة 1992، وعلى مسرح المركز الثقافي في حمص وحماه واللاذقية، كما فازت بالجائزة الأولى لأفضل عرض في مهرجان ربيع المسرح بالمغرب.

وقد تواطأ معي، في هذه الخيانة المهينة، نجم فلسطيني كبير -كان يعمل حينها مديرًا لذلك المسرح- وأدى دور “أبو ذيب”، السجين الفلسطيني البطل المناضل والمقاوم للاحتلال الصهيوني البغيض.

أقنعني بتحويلها من مسرحية نفسية سياسية معارضة للاستبداد، إلى مسرحية وطنية مقاومة…!

كم كان ذلك سهلًا وبسيطًا ومؤلمًا: من سجين سياسي في سجن تدمر العسكري، إلى سجين فلسطيني في سجون العدو الصهيوني الغاشم!! وكم كان الشبه كبيرًا…!

قد يخفف عني الوضع العام الذي كانت تعيشه سورية في ذلك الوقت، حين لم يكن أحد ليجرؤ، أو يفكر بذكر سجن تدمر الرهيب أو غيره من سجون النظام المقاوم. لكني خنت المكان وخنت الزمان وخنت المعنى؛ وكنت في الحقيقة أخون نفسي وروحي، وأخون رفاقي وقضيتي: “الحرية”.

إنها قصة حزينة بامتياز لنص لا حول له ولا قوة. بل هي خيانة واضحة. فالتزوير خيانة والخوف والسذاجة من أخواتها. وهي خيانة مزدوجة لكاتب ومخرج مسرحي، وسجين سياسي يقارع الاستبداد؛ فهل أستحق السخرية أم النقد أم الجلد؟ أم استحق الرثاء فحسب، على هذه “الشقيقة الشقية” التي صفق لها الجمهور طويلًا، وامتدحها النقد الملتزم، وعرض التلفزيون السوري تقريرًا مطولًا عنها، وكُتبت فيها عشرات المقالات في الصحف والمجلات والدوريات والفضائيات.

لا شك أني كنت مخطئًا، ومن كان منكم بلا خطيئة فليرمني بحجر.

نحن اليوم بأمس الحاجة إلى مراجعة الذات وتقديم شهادات حيّة، وتجارب حقيقية عشناها -نحن المسرحيين- بشغف؛ كما اكتوينا بنارها صابرين. بحاجة لسرد حقائق خرافية حدثت بالفعل، في كل مكان من بلدنا، وكانت جزءًا من حياتنا العامة، الثقافية والسياسية، قد تساعدنا -إن ألقينا الضوء عليها بشجاعة- في تأمل المشهد الثقافي، والكشف النقدي والمعرفي، عن تجربة المسرح، وفهم المرحلة التاريخية التي عاشها الفن -خلال نصف قرن- في ظل محنة الابتذال والتسطيح والتفاهة والتهميش، التي أسسها وجذرها الاستبداد السياسي والإرهاب الفكري والثقافي، وسيادة فكر الحزب الواحد والأب القائد، والعصا الغليظة والجزرة البائسة الصفراء، والولاء المطلق للعقائد الجامدة والشعارات الطنّانة، الخالية من الإبداع والمعرفة والجمال، التي حوّلت المسارح إلى منابر خطابة، والمثقفين إلى أبواق أو فقاعات.

تجربة تمتد لنصف قرن تقريبًا، تستحق تقديم جردة حساب ومراجعة نقدية، ذاتية وموضوعية. وهي تستحق العناء -تحديدا- لأن عددًا كبيرًا من التجارب المسرحية المهمة هُمّش وطُمس، لصالح أشباه الموهوبين والمتسلقين الذين فرضتهم وكرستهم السلطة السياسية والإعلامية. فكم من مبدع وكم من تجربة مسرحية غيبها النسيان؛ بسبب السياسات الثقافية غير الوطنية، المنحازة للانحطاط والسلطات المهيمنة، وبسبب المثقفين الذين قبلوا أن تكون ثقافتهم شائهة فئوية ديماغوجية، وملحقة بالأيديولوجيا والديماغوجيا وعبادة الفرد، تقوم على الاستقطاب والعلاقات العامة والابتذال، وتدافع عن الظلم وتشوه التاريخ والجمال والمعرفة.

من السهل اتهام الآخرين، لكن ماذا لو سألنا أنفسنا عن الدور الذي لعبه كل منا عندما شارك في تلك الجرائم الثقافية –بشكل أو بآخر- سواء أكان ذلك مباشرًا أم غير مباشر، بإرادتنا أم رغمًا عنا، وسواء كان ذلك شقيقة أم فصامًا!؟




المصدر