لبيروت من قلبي سلام.. وأيضًا لـ “فيروز”


حافظ قرقوط

لم تكن أسوارة العروس، المشغولة بالذهب، لعروسٍ طرحتها السواد، بل لعروس قوامها دفء البيوت الطيبة المُحاطة ببياض الروح، ولم يكن الجنوب مشغولًا أو مُحاصرًا بقلوب القُساة، حين أنشدت له فيروز تلك الأغنية من كلمات الشاعر الجنوبي، جوزيف حرب، بل كان الجنوب -آنذاك- طودًا يحاول حفر اسمه في الذاكرة، على وقع بقايا مقاومة وطنية، تجتاز خطوط الطوائف والانتماءات الضيّقة والأحزاب، ليبدأ الأسد وجيشه بحصارها في منتصف سبعينيات القرن الماضي، ليدخل المال الإيراني، في ما بعد، ويمهّد الطريق كـ “بلدوزر”، أمام اغتيال نضارة الشرق، بداية من وجه لبنان المُشرق، وليس انتهاء بدمشق.

تناقلت بعض وكالات الأنباء المحلية والعالمية، وكذلك بعض التلفازات اللبنانية وصفحات التواصل الاجتماعي، خلال الأيام الماضية، خبرًا عن منع ما يسمى “التعبئة الطلابية” في ميليشيا “حزب الله” مجموعة من الطلاب اللبنانيين، من إقامة حفل تأبين لأحد زملائهم، كانوا يعتزمون خلاله بث اغانٍ لفيروز وجوليا بطرس.

وذكر موقع “جنوبية” أن الحادثة وقعت في “حرم كلية الهندسة في مجمع الجامعة اللبنانية، الواقع في منطقة الحدث قرب العاصمة بيروت”، ونقل الموقع عن مقدمة أخبار “المؤسسة اللبنانية للإرسال” قولها: “حين يصل الأمر إلى منع أغاني فيروز في الجامعة اللبنانية، فأين يكون قد أصبح البلد؟”.

تسعى جميع الأمم للبحث دائمًا، عن مفردات تراثها وتاريخها وأعلامها في المجالات كافة، لتدعيم هويتها وحجز مكانتها التي ستكون مصدر فخر واعتزاز لأبنائها، ليس أولئك المقيمين فيها فحسب، بل لكل من هاجر عنها لأي سبب، أينما رحلوا وحلّوا، ومن ميّزة الشرق هو ذلك الغِنى الثقافي والإنساني وتنوعه، والذي ما زال يُفاجئ الجميع بكنوزه التي تتكشف.

لبنان الذي اعتاد الجميع على قدرته الدائمة، وعلى التفاعل مع مياهه الدافئة التي تطل على بقية الأمم من جهة، ومع العمق الجغرافي نحو الشرق حيث بقية بلاد الشام، ليكون مركزًا حيويًا للتبادل والاستقطاب بين بلدان العالم، هو جزء من هوية الشرق، وخلال مسيرة تمتد على نحو نصف قرن، شغلت فيروز مكانًا مرموقًا في تثبيت هوية هذا البلد، ليست الفنية أو السياحية أو غناها الثقافي، وما إلى ذلك، بل كان لها الدور في تشكيل وجه لبنان السياسي، وجزء من المؤثرات في تشكيل الوعي الوطني لأجيال، عاشت حروبًا متتالية ومتداخلة في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة.

عندما انطلقت الحركات الدينية التعبوية التي تتم إدارتها من إيران، كان عليها أول الأمر أن تجد هوية تعبُر من خلالها إلى المنطقة، فادّعت مقاومة المشروع “الإسرائيلي”، وهو الدور الذي سيتكشف رويدًا رويدًا مع الزمن، من حيث العنوان الأكبر والأخطر، ألا وهو طمس الهوية الحضارية للمنطقة، بعاداتها وتقاليدها وأسلوبها وتراثها، والتلاعب بيومياتها لتغيير أهدافها، وهو مشروع يرتبط بمشروع فارسي، وبدور لا وطني، يتقاطع مع مشروع الصهيونية، بدفن ذاكرة المنطقة بشكلها الكلي، ومن هنا يأتي دور نظام الأسد بتدمير مدنها التراثية التي تحوي ثقافتها وهويتها، وتشريد أهلها، وجعلهم يبحثون عن موقع آمن لأطفالهم، ولا يكترثون لذلك السعي المنظم لإبادة الذاكرة البشرية والمكانية، وما تفعله براميل القتل، وأيضًا عصابات تهريب الآثار.

غنّت فيروز للشام ما لم يغنيه صوت، فهي من صدح صوتها من كلمات سعيد عقل:

حَمَلْتُ بَيْروتَ في صَوتِي وفي نَغَمِـي      وَحَمّلَتْنِـي دمَشْـقُ السَّيْفَ في القَلَـمِ

إن الانتقام من فيروز من المُرجّح أنه ضمن مشروع متكامل، مع هدير الطائرات في سماء سورية للانتقام من بلاد الشام، فما غنته فيروز لدمشق، يُعد -في حدّ ذاته- هوية تدمج التاريخ بالحاضر بالمستقبل، لم لا، وهي من غنت “أهلك التاريخ من فُضلتهم ذكرهم في عروة الدهر وسام، أمويّون فإن ضقت بهم ألحقوا الدنيا ببستان هشام”، وكما غنت للأماكن ورمزيتها كالغوطة وجبل حرمون وقاسيون، لتختصر كل هذا بمقطع اغنية تقول فيها: “أهـلي وأهلُكَ وَالحَضَارَةُ وَحَّـدَتْنا وَالسَّـمَاحُ”،

وَصُمُودُنَا وَقَوَافِلُ الأبطَالِ     مَنْ ضَحّوا وَرَاحوا

يا شَـامُ، يا بَوّابَةَ التّارِيخِ         تَحرُسُـكِ الرِّمَاحُ

لا يمكن فهم ما أقدمت عليه “التعبئة الطلابية” التابعة لميليشيا “حزب الله”، في الجامعة اللبنانية، إلا من خلال رؤية متكاملة للمنطقة والدور التخريبي الإيراني، وهي ما يمكن عدها تنظيمًا قتاليًا، له مهمات محدّدة، لا يقلّ خطورة عن الاستعراض العسكري لهذه الميليشيا في مدينة القصير السورية، ولا أقل خطورة من ضم ميليشيا “الحشد الشعبي” الطائفي، على الرغم من كل جرائمه بحق العراقيين، إلى الجيش العراقي، ولا تقل فعلًا عمّا تقوم به بقية الميليشيات العراقية في أحياء حلب؛ بإطلاقها الأناشيد الطائفية، التي استقبلت -أخيرًا- النازحين الحلبيين بطريقة استفزازية، ولا حتى عن مظاهر اللطم داخل الجامع الأموي، وفي سوق الحميدية الدمشقي، لجرح مشاعر الدمشقيين وبقية السوريين، وكذلك الصور التي انتشرت في قلب دمشق، لرموز غير عربية ولتراث غير عربي، ولألحان وأناشيد وعادات لا يعرفها العرب، ولا تنتمي لأي تراث يخصّهم.

فيروز التي كما قالت بعض المواقع اللبنانية: إن لبنان “احتفل بعيد ميلادها الواحد والثمانين منذ أيام، ووُضِعَت صورتها -بالضوء- على أعمدة مدينة بعلبك، تُمنَع أغانيها في الجامعة اللبنانية”.

الصفحات اللبنانية تقول أيضًا إن طلاب الجامعة اللبنانية المحاذية للضاحية الجنوبية ببيروت يعانون “من ممارسات “التعبئة الطالبية” التي تسيطر على مجالس طلابية عدة منذ أعوام”.

الحقيقة الأكثر مرارة، أن هذه الميليشيا تسيطر على قرار دولة كاملة، بجيشها وقوى أمنها ومنافذَها البرية والبحرية والجوية وخارجيتها، ورئاستها الأولى وحكومتها ومجلسها النيابي، وتتحكم حتى بحركة السير وخطوط الهاتف والكهرباء والماء، ولذلك؛ يتوجب على لبنان البحث عن اليات تعيد له استقلاله، فصوت فيروز الذي حمل اسمه وزرعه في وجدان اللبنانيين والعالم، هو سفيره أيضًا إلى كل اللغات، ومنع هذا الصوت يعني رحيل لبنان مع أعمدة بعلبك وبيت الدين ومنارة بيروت شرق المتوسط، إلى ما بعد قَمْ؛ ليعود بعباءة سوداء، حينها سيشتاق الجميع لمن يغني “لبيروت من قلبي سلام”.




المصدر