من يتقارب مع رؤية الآخر في سورية تركيا أم روسيا؟


القدس العربي

الاتصالات الهاتفية بين الرئيسين أردوغان وبوتين لا تتوقف، واتصالات وزيري الخارجية الروسي والتركي متوالية، واجتماعات اللجان الأمنية والاستراتيجية والمخابراتية والعسكرية بين الحكومتين التركية والروسية متواصلة، منذ مؤتمر بطرسبورغ في روسيا قبل أشهر.

هذا كله يؤكد حرص الدولتين والزعيمين التركي والروسي على إيجاد قاعدة تفاهم مشتركة، ووضع خطط مشتركة لمواجهة التحديات والأزمات القائمة بين البلدين وفي المنطقة، وفي مقدمتها الأزمة السورية. فروسيا بزعامة بوتين ووزير خارجيتها لافروف فقدوا الأمل بالتعاون المجدي مع أميركا ووزير خارجيتها جون كيري، طالما أنها لم تضمن إلزام وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بتنفيذ ما تم التوقيع عليه بينهما، كما حصل في الاتفاق الأخير بشأن وقف إطلاق النار في حلب.

أما الموقف الروسي من إيران، فإن الروس يدركون الآن أن الإيرانيين حالهم في السياسة أسوأ منه في المعارك، فهم لا يستطيعون أن يتقدموا شبرا واحد في الحل السياسي، لأن الشعب والمعارضة السياسية والعسكرية السورية لا تثق بالإيرانيين إطلاقا، لأنها تجدهم هم المفاوضون مكان بقايا نظام الأسد، فلا وجود لنظام الأسد في المفاوضات التي تجري في دمشق وغيرها، ومن باب أولى أنه لا وجود لهم في الشمال ولا في الجنوب، ومن يتولى ذلك هم ضباط إيرانيون، وبالتالي فإن القيادة الروسية فقدت الأمل في الحل السياسي الذي ترعاه أميركا، ومن إيران أيضًا. أما فقدانها الأمل بالحل العسكري فقد تحقق بعد أربعة أشهر من تدخلها العسكري المجنون بتاريخ 30/ 9/ 2015، وما تفعله حتى الآن محاولات للضغط العسكري فقط، بالقصف والتدمير والقتل لإجبار المعارضة السورية على الخضوع لما رفضته في مؤتمرات فيينا وجنيف، ولكنها فشلت في ذلك سابقًا، وهي تعود لذلك لفقدان الأمل بطرق أخرى، ولو في حلب وحدها الآن، ولأنها ستفشل أيضًا حتى لو دمرت حلب بالكامل، فالقصف الوحشي والإجرامي لحلب لن ينقذ روسيا بإيجاد حل عسكري في سورية، لأن الشعب السوري يرفض الاحتلال الروسي، بوتين يدرك ذلك، والشعب السوري رفض الاحتلال الإيراني من قبل، ولن يجد في جيش الأسد بعد الآن إلا جيش احتلال على فرض وجوده، فهو غير موجود أصلًا، وما يطلق عليه قوات النظام هم ميليشيات طائفية ومرتزقة من لبنان والعراق وأفغانستان وإيران ومرتزقة من شركات أمنية أجنبية، تجلب مقاتلين مغامرين يشاركون في الحرب، هواية أو احترافا أو رغبة في القتل فقط، مثل المشاركين في رحلات الصيد، ولكنهم يجدون بفضل الأسد من يدفع لهم ثمن قتلهم للسوريين.

هذا يعني أن روسيا في مأزق عسكري وسياسي في سورية، وفي ظل الانشغال الأميركي بنقل السلطة من إدارة أوباما إلى الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، وفي ظل عجز إيران وتوابعها الشيعية من حزب الله اللبناني وغيره من تقديم أي مساعدة لروسيا أكثر مما فعلوا من قبل، فإن روسيا لا تجد طريقا غير الباب التركي لها، لإيجاد حل سياسي يغنيها عن الحل العسكري، وليس بإيجاد حل سياسي في حلب فقط، وإنما في كل سورية بعد ذلك، الحل في حلب قد يكون المقدمة، ولكن ليس كما قيل في بعض مراحل مشاريع دي مستورا الوهمية قبل سنوات، وروسيا تدرك أن قدرات تركيا في مساعدتها في سورية أكثر من فرص إيران، وبالأخص في الجانب السياسي، ولكن الحكومة التركية لن تمارس القتل للشعب السوري من أجل فرض حل سياسي أو عسكري، كما فعلت وتفعل إيران وحرسها الثوري، فالحكومة التركية لا تملك حرسًا ثوريًا تركيًا لا في تركيا ولا في سورية، وعلاقتها العسكرية بتقديم الدعم للشعب السوري فقط، ومن خلال فصائل المعارضة السياسية والمسلحة التي تدافع عن شعبها ووطنها ضد المحتلين، وبالتالي فان الحكومة التركية تعمل مع روسيا بالطرق القانونية والسياسية للتفاوض مع المعارضة السورية الحقيقية، وليس المعارضة التي تستجلبها إيران أو حكومة السيسي إلى موسكو للتفاوض معها، وهي لا تملك من قرارها شيئًا، لذلك كانت زيارة وزير الخارجية الروسي لافروف إلى أنقرة يوم الأول من ديسمبر 2016 فرصة حقيقية لإيجاد حل سياسي لوقف إطلاق النار في حلب، وفق الرؤية التركية، حيث تجري الاتصالات بين روسيا والمعارضة السورية بوساطة تركية مباشرة، أو غير مباشرة، وكلا الطرفين الروسي والمعارضة السورية الحقيقية يملكان القرار، وبالأخص إذا لم يوجد طرف دولي يخرب تفاوضهما أولًا، كما أن من المؤمل أن لا تتدخل أطراف إقليمية لتخريب الاتفاق المقبل بينهما أيضا، حتى لو كانت تحت ضغوط أميركية، لأن الاتفاق بوساطة تركية خير من مواصلة القتل والتدمير والتشريد، ومن أضر بكل الاتفاقيات السابقة هي الإدارة الأميركية التي تسعى بطرق ملتوية لإدامة الصراع لسنوات أو عقود مقبلة، وروسيا اليوم متضررة كثيرًا من استمرار الحرب في سورية.

المشكلة الكبرى التي تواجهها القيادة الروسية اليوم هي التحالفات السابقة التي ربطتها بالتحالف الإيراني الأسدي، فقد ظنت أنه يمكن ان يحقق لها النجاح والمصالح الاستراتيجية والاقتصادية في سورية، ولكنه عجز عن ذلك، فإما أن تبقى روسيا تواجه أزمتها نفسها التي واجهتها في أفغانستان، حيث كانت تستطيع القتال لعقود مقبلة ولكن دون كسب المعركة، أو ان تضع حدا لخسارتها العسكرية والسياسية، وهي اليوم في سورية في المأزق الأفغاني نفسه، فهي تستطيع ان تقصف وتقتل وتدمر لسنوات مقبلة، ولكن دون نتيجة، لأن خسارتها الحقيقية في أفغانستان عدم وجود شعب أفغاني يؤمن لها النجاح، واليوم لا يوجد شعب سوري يؤمن لها النجاح، وإيران وميليشياتها عبارة عن جيوش محتلة لسورية، ولا تمثل الشعب السوري، وبشار الأسد لا يمثل أكثر من 20% من الشعب السوري في أحسن أحواله، وبالتالي فإن مأزق أفغانستان موجود في سورية، فلا يوجد شعب يضمن لروسيا النجاح إلا الشعب الذي تمثله المعارضة السورية المعتدلة، والمؤيدة من الدول العربية والخليجية وتركيا. وعندما بدأت روسيا بالتحرك نحو تركيا أخذ الأسد يطمعها باتفاقيات الإعمار، واخذ يوقع مع الشركات الروسية العقود والأرباح، وهو لا يضمن إعمار نفسه، فكيف يوقع مع روسيا عقود إعمار سورية، فلقد فقد الأسد كل شيء ويعيش في وهم أسطوري أن يبقى رئيسا، وهو ضحية الرغبة الأميركية والإسرائيلية باستمرار القتال في سورية، وضحية الجنون الإيراني الذي استعد تلبية للرغبة الأميركية والإسرائيلية بمواصلة القتال لسنوات، بينما روسيا لا مصلحة له بهذه المعركة على هذا النحو الجنوني، ولذلك فإن من الصعوبة إيجاد الحل إذا لم تتحرر روسيا من قيود حلف إيران الفاشل، فالحل اليوم في يد روسيا باتخاذ القرار الذي يسهل لها التحرر من قيود المحور الإيراني الخاسر، فإيران فشلت في توقيع اتفاقيات ملزمة مع أميركا في ملفها النووي وأصبحت في مهب العقوبات من جديد مع إدارة ترامب، ومن لا يملك إنقاذ نفسه لا يجوز الاعتماد عليه لإنقاذ غيره.

روسيا أمام فرصة حقيقية في إيجاد حل سياسي في سورية بتقاربها مع السياسة والرؤية التركية، ومن الخطأ ان تسعى موسكو لجلب تركيا إلى سياستها ورؤيتها العقيمة في سورية، لأنها لا تضمن النجاح لها بمستقبل سياسي آمن في سورية، وتركيا وروسيا ملتزمتان باحترام إرادة الشعب السوري، أو احترام إرادة الأغلبية السكانية المعروفة للشعب السوري، والابتعاد كليا عن السياسات الطائفية التي تثيرها إيران وتشعلها أميركا، بل إن على روسيا أن تسابق بتوقيع اتفاقيات مع المعارضة السورية المعتدلة بوساطة تركية قبل أن يتولى ترامب منصب الرئاسة الأميركية فعليًا، فترامب ذو توجهات عسكرية وسياسة أميركية خشنة في الخارج.

(*) كاتب تركي




المصدر