أما آن الوقت لنهوض تيار وطني ديمقراطي؟


عقاب يحيى

كثيرون يلومون الديمقراطيين، والوطنيين، على ما فعلوا، وما أسهم في تغيير مسار الثورة وتوجهاتها. بعض هذا صحيح، وهناك مبالغات تصل حدود الاتهام.. الذي لا يفيد في تشخيص الوضع، ولا في التوصل لمخارج ممكنة، وهم يتحمّلون فعلًا جزءًا غير يسير في مسارات الثورة ومنعرجاتها.

الأعداد كبيرة، والأوزان ثقيلة، خاصة بنظر بعضهم لذاته، والوعي من مستوى جيد، ومع ذلك هناك ضعف التأثير، وهناك التشتت ومتاهات تعدد العناوين والآراء، واختلاف المواقف اختلافًا يبدو اللقاء بينها خارج الممكن.

في المقابل، عديد هؤلاء المحسوبين على هذا الاتجاه، يلقون بالمسؤولية على الإسلاميين، يتهمون، ويشككون ويشتمون. هذا الاتجاه، عرف تموضعًا، منذ أشهر الثورة الأولى، وعبر عشرات الندوات واللقاءات، حين كانت معظم النقاشات تتناول الآخر الإسلامي واستفراده، وما يقوم به، والدعم الذي يتلقاه من الخليج وغيره، وكيف يتصرف به، وكيف يوظّفه لصالح مشروعه الخاص، والقليل من تجرّأ وتناول جذر الإشكالية الكامنة في صلب ذلك الاتجاه، في خطابه ووسائله، في أسباب فرقته وتوزعه، في البعثرة وتعدد المواقف وصخبها، في البعد عن الميادين وهموم وحياة الناس.. وفي كثير من المستلزمات التي تتجاوز الجانب النظري والوعيوي إلى الواقع ومفرداته، ومستلزماته.

لقد عُقدت عديد المؤتمرات خلال السنوات الست، ونهضت بعض التيارات والتشكيلات، معظمها لم ينجح في تجاوز الإشكالية، ولم يستطع أن يُقدّم البديل المقبول، وبعضها تبعثر، أو أصيب بالهزال، بينما هناك جنوح لعدد من التشكيلات باتجاهات متناوبة وفق الموج وشدته.

بعضهم راهن على نجاح تحالفات مع قوى إسلامية، خاصة “جماعة الإخوان المسلمين”، وأنه يمكن التأسيس لتوافقات استراتيجية حول مستقبل البلاد، وتشييد نظام مدني، تعددي، وكان الائتلاف انعكاسًا لتلك التحالفات، وقبله المجلس الوطني، لكن أسبابًا كثيرة لجمت الوصول إلى نتائج مهمة، ليس تركيبة الائتلاف، واستعصاء إصلاحه سوى بعضها، بينما لعب الواقع، خاصة في جانبه المسلح، في إضعاف الاتفاق على مواقف واضحة من القوى المصنفة على أنها إرهابية “جبهة النصرة – فتح  الشام”، أو حول أفكار وطروحات بعض الفصائل العسكرية المتحكمة بالميدان، والعجز في تطوير خطاب سياسي، يفهم التطورات ويتعامل معها بروحية قيادة مسؤولة عن مصير ثورة وبلد، ولم تنجح تلك الهيئات في بلورة وممارسة مشروع وطني يكون القرار المستقل، والاعتماد على الذات، والتمويل الخاص أساسه..

هذه الأمور أفضت إلى خلخلة تلك التوافقات، واتساع الشقة في الخطاب السياسي، وبما يؤشر إلى فكفكة التحالفات، فضلًا عن الشعور -المحسوس- بهامشية دور الوطنيين في القرار، واستخدامهم كواجهة، أو حالة مظهرية.

لقد حدثت تطورات مهمة في الأشهر الأخيرة، تتقاطع مع ما عرفه المشهد السياسي والعسكري من مناقلات، إن كان ذلك على صعيد الحل السياسي المجمّد، أو على الصعيد الميداني المتراجع، وبروز تحديات خطِرة تتناول البلد ومصيره، وهو يتعرّض لنوع من تقسيم مفروض، وقيام كيانات، أو مناطق نفوذ الأمر الواقع.

الحقيقة الصارخة التي يجب الإقرار بها، أن الثورة السورية عبر كل ممثليها، ومن خلال الفصائل العسكرية، لم تستطع بلورة وتجسيد مشروع وطني سوري، أو امتلاك القرار المستقل؛ ما أدّى إلى ارتهان متناوب، ومتعدد لإرادة الدول الإقليمية والخارجية، ووضع مصير البلاد بين أيدي هؤلاء، وتحوّل الجهات القائمة إلى مجرد واجهات، تُعامل وفق حاجة الآخرين إليها، وبالحدود التي يقررونه، وخروج العامل الذاتي السوري من المعادلة. وفي الوقت نفسه، فإن من عوامل التمسك بالمجرم بشار الأسد ونظامه، ومحاولات تكييفه لكل المرحلة الانتقالية، خوف أغلبية المجتمع الدولي من وصول إسلاميين متشددين للحكم بديلًا عنه، وبما يجعلهم يرجحون الكفّة لصالحه حين تكون المقارنة بينه وبين هؤلاء.

في الوقت نفسه، فإن عديد المؤشرات تؤكد أهمية ولادة تيار، أو قطب، أو تحالف وطني ديمقراطي في مناخ يبدو أكثر قابلية، على الصعيدين: الداخلي والخارجي، وهناك كثير من العوامل التي تدفع إليه.

إن أغلبية السوريين المنضوين في الثورة يدركون -اليوم- أن الخطاب الإسلامي المتشدد، والانسياق خلف خطط جهنمية في تحويل الصراع إلى مذهبي، وضعف الجانب المدني، والسلمي والديمقراطي في أوساط المحسوبين على الثورة.. إنما أنتج مزيدًا من السلبيات والتشوّهات، وأنه يجب القيام بعملية تصحيح شاملة – مدروسة وقابلة للحياة.

وكي يكون قابلًا للنجاح، وكي ينهض بالأعباء الكبيرة التي ستُناط به، لا بدّ من وجود نواة صلبة مؤمنة بالعقل الجماعي، وبروحية الفريق، والعمل المشترك، تتفاهم على نقاط برنامجية مختصرة، وتضع لائحة داخلية لعملها، ثم تنطلق بعدها إلى مدّ شبكة علاقات مع أفرع الثورة وفاعلياتها المختلفة.

إن صياغة مشروع وطني ديمقراطي هو اليوم حاجة ملحة، يرتكز على مفاهيم الوطنية السورية، وعلى أسس النظام الديمقراطي الذي أفصحت عنه كثير من وثائق تشكيلات الثورة، خاصة وثائق القاهرة للمعارضة (تموز/ يوليو 2012)، وتطوير ما يحتاج إلى تطوير وفق المتغيرات والمتطلبات..




المصدر