ما بينَ خَيمَتَين


نجم الدين سمان

– لم يكن إشعالُ شَمعَتِك هو السبب؛ قلبي هو الذي اشتعل.

كتَبَت له: – لم ألمحَك في اعتصامنا؛ فَرَّقونا؛ فانسحبنا إلى حديقة المدفع.

– هناك بحثتُ عنكِ؛ رأيتُكِ تتناولين سيكارةً من صديقتِك؛ وانشغلَت عنكِ بحديثٍ جانبيّ؛ فتقدّمتُ وأشعلتها.

– عندها لمَحتُ في عينيكَ أكثرَ من الحزن أو السخرية؛ فقررتُ أن أكتشِفَك.

– نحن الرجالُ نَقَعُ في الحبّ أسرعَ منكُنّ.

– حين غُصتُ في عينيكَ عميقًا.. أحببتُك.

ثم كتَبَت.. بعد عامين:

– لا يُطاوِعُني قلبي على فِرَاقِك.

– لو أننا نذهب معًا.

– ثلاثةُ من إخوتي التحقوا بالجيش الحرّ؛ صِرتُ مُلزَمَةٌ بأبي المشلول؛ وبأمِّي العجوز التي لا تستطيعُ تحريكَه.

– وأنا سأعود إلى مدينتي.

– لم يكن حُبًّا فقط.. ما جَمَعَنا طِيلةَ سنتين.

– فُوجِئتُ حين خرجَت الأصواتُ من حَناجِرِنا في أول مظاهرة.

– وأنا لم يخطُر لي أن أُحِبَّ أمرينِ معًا: أنتَ والثورة.

ثمّ كتبت له: – أرِيدُكَ لأمرٍ طارئ.

– لم أسألكِ إلى أين؛ حتى هَمَستِ: هذا أولُ اجتماعٍ للجان التنسيق المحليّة.

– لم تكُن صامِتًا كما وَصَفُوك؛ كنتَ صَمُوتًا؛ صَبُورًا؛ حَنُونًا؛ ترمِقُنِي باعتزاز؛ جَعَلتَنِي أولَ فتاةٍ تقودُ مُظاهرةً؛ حين حَمَلتني فجأةً فوقَ كتفيك؛ لوهلةٍ.. خِلتُ أنكَ تَحمِلُنُي في ليلةِ زفافنا؛ ولم أدرِ كيف انطلقَ صوتِي مِن بينِ رئتيّ: الشعب يُريد.. إسقاط النظام.

– لا يتحرَّرُ وطنٌ يا حُوريَّتي.. ما لَم تتحرَّر نِسَاؤُه.

– قالَ لي مصطفى في أحدِ اجتماعاتِنا: – في المرَّة المقبلة؛ تعالي بغطاءِ رأس؛ حِرصًا على مَشَاعِرِ أهلِ الحارة.

– قالها بينما كُنَّا نتعرَّض لضغوط النظام؛ نخشى أن يتِمَّ اختراقُنا؛ أو يعترِفَ زياد بأسمائِنا تحت التعذيب.

– بَدَّلنا مكانَ اجتماعاتنا؛ لم نَعُد ننام في عناويننا المعروفة.

– استشهِدَ مِنَّا اثنانِ في تشييع شهيد؛ وكتَبَ مُؤَيِّدُو الطاغية على الجدران: الأسد أو نحرِق البلد.

– عائشة أخت مصطفى قالت بأنَّ أهلَهَا أحبُّونِي بغِطَاءِ رأسٍ كُنتُ أَم بِدُونِه.

– وأنا قلتُ له في آخرِ اجتماعٍ: لنُؤَجّل الحديثَ عن شكلِ الدولة القادمة: إسلاميّةً أو ديمقراطية؛ لِمَا بعدَ إسقاط الطاغية.

– أتذكَرُ تمامًا أنكَ قلتَ له أيضًا: نظيفُو ذاتِ أرواحِهِم وأنفُسِهِم.. هُمُ الأقليَّة؛ في كُلِّ أغلبيَّةٍ؛ وفي كُلِّ أقليَّة.

– للأسف. انفرَطَت تنسيقيتنا؛ لم نكُن ندري تمامًا بأنّ النظامَ يُرِيدُ لِحِرَاكِنَا الشعبيّ أن يتأسلَمَ.

ثمّ كتَبَت له:

– كانت رحلتي شاقةً من غوطة دمشق إلى درعا؛ ظننتُ بأنِّي سأنام على الفور في حُضنِ أمّي؛ مُمسِكةً بيدِ أبي المشلولة.

– وأنا تخطّيتُ حواجزهم ببطاقة هُوِيَّةِ ابنِ عمّي.

– كنتُ قلقةً عليك؛ أنتظِرُ مِنكَ إشارةَ وُصُولِكَ إلى الرقّة.

– ” ذاهبٌ لتأجيجِ مُظاهراتِهَا من جديد”.

– واثقةٌ بأنّكَ تستطيع؛ كما فَعَلتَ بمشاعري؛ وأيقظتَ أنوثتي من سُبَاتِهَا.

– استيقظَ الفرات يا حُوريَّة؛ ولن يُثنِيهِ عن طُوفانِهِ شيء.

– أُمّي كشفتني؛ قالت بعيدًا عن أبي: ترى إنتِ مَغرُومَة يا بنتي؛ فحكيتُ لها عنك؛ صارَت لكَ حَمَاةٌ حُورَانِيَّة.. فانبَسِط.

– لم نستفِق من نشوةِ إسقاط تمثال الطاغية؛ حتى تسَرَّبَ إلينا بأنَّ أمراءَ الحرب؛ سَيُخلُونَ المدينةَ لداعش بِذَرِيعَةِ أن لا قُدرةَ لديهم؛ وأغلبُهُم أفتَى بعَدَمِ جَوازِ مُحَارَبَةِ المُجَاهِدِين للمُجَاهدين؛ حتى لو اختلفَت راياتُهُم.

– بدأ وضعُ أبي الصِحيِّ يتراجع؛ انطلقنا به نحو الحدود الأردنيّة لعلاجه؛ فاكتشفنا بأنّ الطريقَ إلى عمّان مُوصَدَةً في وَجهِ السوريين؛ حَمَلَتنا سيارةُ إسعافٍ إلى أرضٍ قاحلة؛ قيلَ بأنّها “مُخيَّم الزعتري”؛ صِرنا لاجئين بِغَمضَةِ عَين.

– لاحقتني لعنةُ داعش من الرقّة إلى جرابلس؛ فعبرتُ الحدود التركية؛ ثم أخذتني سيَّارَةُ شُرطَة إلى المخيم؛ فأدرَكتُ بأنِّي الآن.. مُجرَّدُ لاجئٍ؛ فتّشتُ عن هاتفٍ لأطمأنّ عليكِ؛ كنت بأمَسِّ الحاجة إلى سَمَاعِ صَوتِكِ. “.

ترَكَت لهُ رسالةً على صفحته في الفيسبوك: – “كم أنا بحاجةٍ إليك”.

كتَبَ لها:- من اللاجئ الرَقّاوِي رقم: مليون و1948؛ إلى اللاجئة الحُورَانيّة: أرسِلِي رقمَ لجوئِك لنَلُمّ شَملَ الرَقَمَين.

– من اللاجِئَة الحُورَانيَّة رقم نِصف مليون و1967؛ إلى اللاجِئ الرَقّاوِي؛ لسنا بخير استُشهِدَ أخي الأوسط؛ أخفينا الخبرَ عن أمّي وأبي؛ ثم جاءنا أخي الكبير بِسَاقٍ واحدةٍ؛ بعد أن فَقَدَ الثانية في معركة تحرير بُصرى الشام.

– من ناحيتنا.. أخي الكبير بَقِيَ في الرقّة؛ تَرَكَ التدخين وأطالَ لِحيَتَهُ حِفَاظًا على الدُكّان وبيتِ العائلة؛ أخي الصغير انتقلَ مع الجيشِ الحُرّ إلى ريفِ حلب.

– شيئانِ فقط.. يسنُدَان روحي في هذا العالم: حُبُّكَ لي؛ وحَيوَنَتِي؛ أقصِد عَدَم استسلامي لليأس.

– وأنا أقنعتُ المُديرَ التركيَّ للمُخيَّم بأنّ يستعينَ بي؛ أعطوني خيمةُ أجمَعُ فيها الموهوبين بالرسم والخَطِّ العربيّ؛ والأهمّ أنّ فيها خطُّ انترنت.

– أكتبُ لكَ بعد انتهاءِ حُصَصِ تدريسي لأطفال المخيّم؛ وحينَ أرسلتَ لي أحدثَ صورةٍ لك؛ اكتشفتُ بأنّي أُحبُّكَ بأكثرَ ممَّا أُحِبُّ نفسي؛ لكَ وَحشَةٌ يا رشيد؛ بطولِ المسافةِ ما بينَ خَيمَتَين؛ ما بينَ مُخيَّمَين؛ في جنوبِ القلبِ وفي شَمَالِه.

– أحُبُّكِ يا حُورِيَّة؛ ألوذُ بكِ من هذا الجحيم؛ ومِن تغريبتي؛ أُغَنِّي لكِ بيني وبين نفسي: “جَنَّه.. جَنَّه.. جَنَّه.. يا وَطنَّا.

– كم تخيّلتُكَ قادمًا من شمالِكَ إلى جَنوبِي.

– صدّقيني.. رأيتُ فيما يرى الحَالِمُ والشهيد؛ بأنَّ الخيامَ قد نهضَت؛ خَفَقَت أطرافُهَا كأجنحة الطيور؛ حلّقتَ فوقنا؛ والناسُ يَهتِفُونَ.. كما لو أننا في أولِ مظاهرةٍ؛ نعبرُ قريةً أو مدينةً.. فتكبُرُ بنا الحشود؛ حتى التقى الحَشدَان عند ساحة الساعة في حمص.

– أخشى أن أتوهَ عنكَ ما تبقّى من عُمرِنَا.

– لكنّي رأيتُ كيف تعانقت روحانا بينَ أصابِعِنَا حين التقينا؛ عادَت سَاقُ أخيكِ المقطوعة؛ فمشى.. يَخِبُّ ليلحقَ بالحَشد؛ رَفَّ أطفالُ مجازرِ الكيماويّ بأجنحةٍ بيضاءَ فَوقَنَا؛ انسرَبَ المُعتقلونَ من سَرَادِيبِهِم تحت الأرض؛ رأيتُ الشُهداءَ ينهضونَ من موتِهِم؛ عَادَت العيونُ إلى مَحَاجِرِها في وُجوهِ مَن قُتِلوا تحت التعذيب؛ لم تَعُد شفاهُهُم زرقاءَ ومُتوَرِّمَة؛ بَرِؤُوا مِن الكَدَمَاتِ؛ بدأت الزهورُ لِتَوِّها تُبَرعِمُ على الشُرُفاتِ المُدَمَّرة؛ غسلتنا أمطارٌ مِن هَولِ مذابِحِنَا؛ عادت للمُغتَصَبَات بَكَارَتُهُنّ؛ تحَوَّلَ غُبَارُ القَصفِ إلى طينٍ ثمّ إلى خَزَفٍ رهيف؛ تَكتَكَت الساعاتُ في الميادين؛ دُقَّت أجراسُ الكنائسِ؛ صَدَحَت المآذنُ بالحنين.

كتَبَت له: – يا إلهي.. لو أنَّنا نعود.

– ” أرجوكِ يا حُورِيَّتي؛ لا تظُنِّي بأنّ رشيدَكِ قد أضاعَ رُشدَه؛ أقسمُ بأنَّ هذا ما قَد رأيت؛ ويكفيني أن أموتَ الآنَ؛ لأنّي رأيتُكِ بجانبي وأصابِعُنَا تتشابكُ في قِيَامَة السوريين على أرضِهِم من جديد.

– أٌحِبُّكَ حتى لو صِرتَ كابوسًا يُؤَرِّقُ ليلَ تغريبتي.

كتَبَ لها: – أُحِبُّكِ حتى آخرِ المنامات.. يا حُورِيَّتِي؛ يا.. حُرِّيَّتِي.

إستانبول 25 – 11 – 2016




المصدر