اتفاقات “المصالحة”… إخضاع ريف العاصمة وشيطنة إدلب


عدنان علي

تحمل عمليات التهجير، التي يقوم بها النظام السوري للمقاتلين والأهالي في عدد من المناطق في محيط العاصمة دمشق، مخاطر كبيرة، سواءً للمهجّرين الذين يجري تكديسهم في محافظة إدلب، أو لمن يبقى منهم في منطقته، على أساس “تسوية وضعه” مع النظام.

وبحساب الدفعات الأخيرة من الواصلين الى إدلب من مدينة التل، ومنطقة خان الشيح، يكون عدد المُرحّلين قد تجاوز العشرة آلاف شخص، بينما ينتظر مزيد منهم دوره، مع تواصل عمليات “المصالحة” التي تجريها سلطات النظام في الريف الدمشقي، حيث من المتوقع أن تمتد قريبًا الى مناطق القلمون، ووادي بردى، وصولًا الى جنوب دمشق، وقد تشمل في مرحلة ما الغوطة الشرقية أيضًا؛ ما يعني -في المحصلة- إخلاء محيط العاصمة من أي وجود مسلح مناهض للنظام، وإرسال عشرات الآلاف من المقاتلين والمدنيين الى الشمال السوري.

ويقول أنصار النظام: مع بداية 2017، ستصبح دمشق وريفها خالية من الأسلحة والمسلحين.

ومن المعروف أن النظام وصل الى هذه النتيجة بعد سنوات من حصاره تلك المناطق مع قصفها ومحاولات اقتحامها باستمرار؛ ما يجبر المقاتلين في النهاية على القبول بهذه الاتفاقات التي تقضي بترحيل من يرفض منهم “تسوية وضعه”، مع أفراد عائلته.

وتسوية الوضع تعني التحاق المطلوبين بجيش النظام، وكذلك المنشقون عن هذا الجيش. وكل ذلك مقابل فك الحصار عن هذه المناطق، والسماح بإدخال المساعدات الغذائية، فضلًا عن عودة مؤسسات النظام للعمل فيها، مع “تعهدات” بعدم اقتحامها، واعتقال المطلوبين فيها للنظام، وهي تعهدات قلما يلتزم بها النظام.

وإضافة إلى ما يحمله هذا الأمر من مكاسب عسكرية وسياسية واقتصادية واستراتيجية للنظام، فإن ثمة أسئلة آنية تثار حول مصير المنفيين الى إدلب، ومصير المتبقين في مناطقهم، بانتظار “تسوية أوضاعهم” مع النظام؟

المهجرون الى إدلب

وصلت آخر دفعات المهجرين الى إدلب من مدينة التل في ريف دمشق الشمالي ومنطقة خان الشيح في الريف الغربي، والتي شملت أيضًا زاكية وبقية مناطق الغوطة الغربية، حيث وصل نحو 3000 من خان الشيح، ومثلهم من مدينة التل. وسبقهم -قبل ذلك- مهجرون من قدسيا والهامة والزبداني ومضايا والمعضمية وداريا، بينما توجه المُرحّلون من حمص الى ريف حمص الشمالي.

حظي المرحلون من داريا باستقبال احتفالي في إدلب بوصفهم يمثلون مدينة صمدت صمودًا بطوليًا في وجه قوات النظام طوال أربع سنوات. ووصل الى إدلب نحو 4500 شخص من مدينة داريا، منهم 3000 مدنيًا، حيث تولت جهات ومنظمات إنسانية عدة، مسؤولية استقبالهم وتأمين حاجاتهم من سكن وطعام وخدمات أخرى، وفي مقدمتها هيئة الإغاثة التابعة للإدارة المدنية لـ “جيش الفتح”، بالتنسيق مع إدارات المناطق في المحافظة، لتجهيز المساعدات والبيوت وأماكن إقامة المهجرين.

كما تولى “جيش الإسلام” الموجود في الشمال السوري، في منطقة “بابسقا”، استقبال عشرات العائلات، في حين انتشرت دعوات بين الأهالي لتخفيض إيجارات البيوت قدر المستطاع، والاستغناء عنها إن أمكن. وبحسب المجلس المحلي السابق لمدينة داريا الذي حل نفسه أخيرًا، فقد أُمّن سكن لجميع الأسر التي خرجت من داريا، بفضل جهد عدد من المنظمات الإنسانية والمبادرات الفردية، وبالتنسيق مع “غرفة طوارئ داريا”، والتي حُلّت لاحقًا أيضًا، لتتولى شؤون أهل داريا المهجرين لجنة أخرى منتخبة منهم. وأحصت اللجنة ما يقارب 450 عائلة من داريا، موزعين على عدة قرى في ريف المحافظة.

غير أن هذا الاستقبال المميز لأهالي داريا ومقاتليها، لم تحظ به الدفعات التالية من المهجرين من ريف دمشق، على الرغم من الترحيب بهم ترحيبًا جيدًا من جانب الأهالي، وقد وُزّع الواصلون الجدد على منازل متفرقة في أحياء المدينة، ومنهم من استأجر منزلًا بمفرده. كما توجد عشرات العائلات، وعشرات الشبان في مراكز إيواء في المحافظة، بينما استقبلت بعض المخيمات جزءًا من العائلات.

يقول عبيدة أبو البراء من مركز إدلب الإعلامي: “إن الصعوبات الأساسية تتمثل في العثور على مكان لإقامة المهجرين، حيث تؤوي المحافظة أكثر من 375 ألف نازح من حلب، وإدلب، وريف اللاذقية، وريفي حماة وحمص، ضمن ما يقارب 300 مخيمًا، موزعة على الشريط الحدودي مع تركيا، وداخل المحافظة، لافتًا إلى أن سكان المخيمات يعيشون أوضاعًا إنسانية صعبة؛ بسبب ضعف الخدمات والرعاية الصحية.

وأضاف أبو في البراء في حديثه لـ (جيرون) أن المنظمات الإنسانية:” باتت عاجزةً عن تأمين حاجات الوافدين الجدد، حيث يُرسل أغلبهم إلى المخيمات ومراكز الإيواء”.

وعن مدى توافر فرص العمل للمهجّرين، قال: هناك “صعوبة كبيرة في توفير العمل للجميع؛ حيث تعم البطالة مجمل مناطق إدلب”.

اما بالنسبة للعسكريين، فأوضح أبو البراء أن كثيرًا منهم “جزء من فصائل لها وجود في إدلب، وقد التحق هؤلاء بفصائلهم، بينما اختار آخرون، مثل بعض الكتائب القادمة من داريا، الالتحاق بجبهات القتال في حلب، وريف حماة الشمالي”.

وقبل نحو شهر ونصف الشهر، “توفي قائد (لواء شهداء الإسلام) العامل في مدينة داريا، أبو جعفر الحمصي، غرقًا في ريف إدلب الغربي، في ملابسات غامضة”.

وأوضح أن هناك “خمس منظمات إنسانية محلية تعنى بالمهجرين من داريا، لكن إمكاناتها ليست كبيرة، ولا تستطيع في كل الأحيان تأمين المتطلبات الأساسية للأهالي”.

تعوّل مصادر النظام السوري، كما عبّر عن ذلك ما يسمى بوزير المصالحة، علي حيدر، بأن يختار المرحلون، وخاصة العسكريين منهم، الخروج إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا، وهو ما تم فعلًا بالنسبة لبعضهم، حيث أوقفت جبهة “فتح الشام” بعض الشبان ممن كانوا يحاولون العبور إلى تركيا، قبل أن تطلق سراحهم.

لماذا إدلب؟

يرى ناشطون أن النظام يستهدف، بإرساله معارضيه إلى إدلب، من مدنيين وعسكريين، إبعادهم عن دمشق، وإزالة المخاطر في المناطق القريبة منها، وذلك لتأمين العاصمة من هجوم المعارضة، إضافة إلى أن تجميع معارضيه في بقعة جغرافية واحدة يُسهل عليه استهدافها في الوقت الملائم له، فضلًا عن أن تجميع مقاتلين من خلفيات عقائدية مختلفة، هو بيئة ملائمة لاستيلاد الخلافات والفتن بينهم، والتي قد تتطور إلى صدامات مسلحة، كما حصل أخيرًا عندما شنّت حركة أحرار الشام وفصائل أخرى حربًا على فصيل “جند الاقصى” الذي لم يجد مخرجًا له سوى الاندماج في “جبهة فتح الشام”.

ويضيف الناشط محمد الظاهر، من إدلب، سببًا آخر وهو سعي النظام إلى: “تصوير إدلب سياسيًا وإعلاميًا، بوصفها ملاذًا للمسلحين والإرهاب، مستغلًا وجود “جبهة فتح الشام” فيها، لتصوير الأمر، وكأن الجبهة هي من يدير المدينة، أو هي القوة الرئيسة فيها؛ ما يسهل عليه -لاحقًا- حشد تأييد دولي لاستهداف المحافظة، والتي تُستهدف -على أي حال- اليوم بذرائع مختلفة”.

أما الصحافي أحمد العلي، فرأى في حديثه لـ (جيرون): أن النظام “يريد أن يكرس إدلب -مستقبلًا- في صورة تورا بورا في أفغانستان، ملاذًا آمنًا للإرهاب، يستحل قصفها واستهدافها من الجميع؛ بذريعة مكافحة الإرهاب”. ولم يستبعد العلي أن يفتعل النظام “حينئذ بعض عمليات التفجير، سواءً ضد الأقليات في سورية، أو حتى خارج سورية، من أجل إلصاقها بالقوى الموجودة في إدلب، بهدف التجييش الإعلامي ضدها، وتبرير تشكيل تحالف دولي لضربها”.

لكن العلي رجّح أن يكون حال إدلب “بعد فترة من الزمن، مثل حال غروزني”، بحيث تتعرض “لحرب إبادة؛ بهدف القضاء على روح المقاومة فيها”. وإذا لم تسمح الأوضاع الدولية للنظام وروسيا بفعل ذلك، فقد تتحول إلى كيان شبيه بقطاع غزة. بقعة جغرافية صغيرة محاصرة من جميع الجهات، باستثناء تركيا، وتتعرض لقصف يومي”.

 مصير من تبقّى

مصير الشباب الذين رفضوا الخروج إلى إدلب، على كف عفريت. وتقضي مسألة “تسوية الوضع” الموجودة في مجمل اتفاقات “المصالحة” التي أُبرمت، إما بمغادرة البلاد بعد المهلة التي حددها النظام بتسوية أوضاعهم، وهي ستة أشهر، أو الالتحاق بقواته والقتال على الجبهات، أو بإحدى تشكيلاته العسكرية، مثل “الدفاع الوطني” أو “درع القلمون” الذي تشكل من ميليشيات تابعة للنظام في مدن وبلدات القلمون.

وقبل أيام، وردت أنباء عن خرق النظام بنود المصالحات في المدن التي غادرها المقاتلون، حيث شنت قواته حملات دهم واعتقالٍ طالت المتخلفين عن الخدمة الإلزامية لدى النظام في بلدتي الهامة وقدسيا بريف دمشق، إضافة إلى بلدة خان الشيح بريفها الغربي.

وقال ناشطون في مدينة قدسيا: إن النظام ولجان المصالحة وزعوا بدلات عسكرية وأحذية على المطلوبين للخدمة الإلزامية والاحتياطية، خلافًا لوعود النظام السابقة بإعطاء مهلة ستة أشهر قبل سحبهم للخدمة، ورجّحوا أن النظام يريد سوق هؤلاء إلى جبهات القتال في حلب، ما يجعلهم في خندق مقابل لرفاقهم الذين هُجّروا إلى إدلب، والتحق بعضهم بجبهات القتال في حلب.

وإذا كانت داريا قد هُجّر أهلوها جميعًا، من عسكريين ومدنيين، ولم تتمكن قوات النظام والشبيحة التي دخلتها بعد التهجير سوى من “تعفيش” ما في البيوت من ممتلكات، فإن المناطق الأخرى التي بقي فيها سكان، باتت تتعرض لكثير من المضايقات خلافًا لوعود قوات النظام.

وبعد مرور أسابيع على تهجير المقاتلين وبعض المدنيين من مدينة معضمية الشام، ما زال النظام يفرض الحصار على البلدة، ولم يُطلق سراح أحد من المعتقلين، أو يوضح مصيرهم، بل عمد إلى اعتقال عدد من الشبان، وتجنيد الشبان والرجال ضمن لجان خاصة، تحت سلطة الفرقة الرابعة، علمًا أن هناك مئات المعتقلين من أبناء المدينة في سجون النظام، بينهم أعداد كبيرة من النساء والأطفال.

ويقول ناشطون إن قوات النظام تُحاصر المدنيين في مساحة لا تتجاوز الكيلو المتر المربع الواحد، حيث ترفض الانسحاب خارج حدود المعضمية، وتمنع تشغيل محطة الوقود، وفتح أي صيدلية، وترفض بناء فرن.




المصدر