الفن والسياسة: حالة الفن التجريدي


لقد فتح عدد كبير من الفنانين، ومحبي الفن، العرب، خصوصاً بداية السبعينيات، أعينهم على الفن التجريدي في بلدانهم. أصبح الجميع يظن أن الفن الراقي، أو أن مبدأ الفن ومنتهاه هو الفن التجريدي. تراجعت كل الأفكار التي راجت في بداية الستينيات، مع مجلة “أنفاس” في المغرب ومجموعات المبدعين في جميع أصناف وأساليب الفنون والإبداعات، والتي كان مفادها أن الفن التزام بقضية أمة وحضارة. لو عدنا قليلاً إلى الوراء لانتبهنا إلى أن تلك المجموعة التي تحلّقت حول تجربة “أنفاس”، مثلاً، ومدرسة الفنون في الدار البيضاء، كانت تناضل من أجل فن من الشعب وإلى الشعب. كانت فعلاً تؤسس لهوية بصرية وطنية، ولكنها كانت تناضل من أجل تصفية الاستعمار الثقافي التي كانت تعتبر أن مجموعة كبيرة من المواطنين، خصوصاً النخبة، ضحية له. وكذلك كان الأمر في العراق وسورية ولبنان ومصر والجزائر وتونس…

كل هذا يجعلنا نتساءل: لماذا تشبث المغاربة، أسوة بعدد كبير من العرب، بالفن التجريدي في جميع أصنافه ولم تغرِهم تيارات غربية أخرى؟ أكيد أن المعركة التي جرت بين الفنانين الشباب الحداثيين وأولئك المسيطرين على سوق الفن مع بداية عهود الاستقلال السياسي كان لها دور كبير في هذا الاختيار. كان العالم الغربي آنذاك قد تجاوز إشكالية الفن التجريدي والفن التشخيصي ولم يعد لها من وجود. كان الفن قد تحول إلى التكنولوجيا وظهرت تعبيرات جديدة من مثل الفيديو آرت والبرفومانس والأنستلايشن، وحتى الفن التصويري الصباغي كان قد تحوّل إلى ما يشبه أخلاطا من المواد تعيد النظر كلية في نبل الصباغة الزيتية العتيدة.

هذه الحالة تستدعي منا إثارة بعض النقاط حتى تنير لنا الطريق. كان هناك في بعض البلدان العربية فن تشخيصي يسمي نفسه بالواقعي، وكان يقترب أكثر من الفن الاجتماعي الاشتراكي الذي تطور في معسكر الدول الشرقية التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي آنذاك. كان هذا الفن، في أغلب الأحيان، فناً يمدح منجزات الدولة، ويتوجه إلى عموم الناس لإقناعهم بذلك، بل كان منهم من يسميه الفن الجماهيري. لم يكن الفنانون العرب، خصوصاً أولئك الذين أصبحوا مكرسين فيما بعد، يعترفون بهذا الصنف من التعبير الفني. كانوا يعتبرون أن الفنان لا يمكن أن يُجَيَّش وراء إيديولوجية معينة. لكن بالمقابل، وفي تبنيهم للفن التجريدي، كان هؤلاء الفنانون ينتجون فناً صامتاً لا يلتزم بقضايا الناس وبهمومهم اليومية. صحيح أنهم لم يكونوا أبواقاً للسلطة، كما كانوا يسمون أصحاب الفن الواقعي، ناعتين إياهم بالفنانين الرسميين الذين يكرسون فنهم لامتداح الزعيم، لكنهم كانوا، بالمقابل، ينتجون فناً صامتاً محايداً، أو الفن للفن، كما يسميهم نظراؤهم الواقعيون.

وهنا من الضروري أن نشير إلى بعض ملابسات هذه المسألة. يتعلق الأمر بتشجيع الفن التجريدي من طرف المعسكر الغربي، إبان الحرب الباردة، في مواجهة تشجيع الفن الواقعي من طرف المعسكر الشرقي. فلقد أصبح الأمر اليوم واضحاً فيما يتعلق بتشجيع وكالة الاستخبارات الأميركية للفن التجريدي، خصوصاً ذلك الذي لا يدّعي أنه يدافع عن فكر معين ملتزم بقضية جماهيرية ما، أي أنه يدافع عن فكر محايد لا يعني إلا الفرد وحده. فبقدر ما كان الفنانون في المعسكر الشرقي يدافعون عن الذات الجماعية ارتأت الآلة الدعائية في المعسكر الغربي أن تدفع بالذاتية والفردانية في الفن إلى أقصى الحدود.

وللتدليل على الأمر، لن نجد أحسن من الفنان الأميركي جاكسون بولوك (Jackson Pollock) بالأساس، ولكن أيضا وبنفس الطريقة والحدّة دو كونينغ De Kooning)، ورطخو (Rotkho) وآخرين، كانت السي آي إيه (CIA) تشجع هؤلاء الفنانين دون علمهم عن طريق المؤتمر الثقافي الذي كان قد فتح له فروعاً في أكثر من أربعين دولة، وكان ينشر الدوريات والكتب التي تجعل من هؤلاء الفنانين مثالاً يُحتذى في الحرية الفردية، في مقابل ما كانوا يقدمونه على أساس أنه فن موجّه ومراقب من طرف السلطات في العالم الاشتراكي. وكان اهتمام وكالة الاستخبارات الأميركية بهؤلاء الفنانين نابع من أنهم كانوا شيوعيين سابقين، لذا كانت تظهرهم للعالم وكأنهم غادروا الشيوعية لأنها لا تضمن لهم حرية الإبداع. لم تكن الوكالة تشجع الفنانين التشكيليين فحسب، بل كانت تشجع، وفي السياق نفسه، الموسيقيين والمهندسين المعماريين وغيرهم.

لا يعني هذا أن الفن التجريدي كان كله مرتبطاً بهذه الوكالة، ولكن عدداً من فناني العالم الثالث، كما كانت تُسمى الدول غير المتقدمة، اختاروا طريق الفن التجريدي، لأنه لا يزعج المسؤولين السياسيين ويترك للفنانين حرية التصرف بدون اللجوء إلى مدح السلطان. لكن المشكلة التي تثير انتباهنا تكمن في كون هؤلاء الفنانين لم يتوقفوا عند استغلال هذه الوضعية، بل راحوا يبحثون لها عن مبررات في ثقافتنا العربية الإسلامية للدفاع عن مواقفهم. كان هذا الجدال يفرغ المشكل من محتواه الحقيقي ولا يسمي الأشياء بمسمياتها، بل يُغرقها في نوع من النقاش العقيم. فعوض الحديث عن عدم قدرة الفنان على التصريح بآرائه والالتزام بقضية من القضايا، كان الحديث يدور عن شيء لا علاقة له لا بالدين ولا بالثقافة. فبالرجوع اليوم إلى الأدبيات التي رافقت الإنتاج التشكيلي البصري العربي، سوف نتوقف عند تبريرات كتلك التي تقول بعدم توافق الفن التشخيصي مع ثقافتنا العربية الإسلامية. في هذا الباب، كانت كتابات النقاد والفنانين التشكيليين أنفسهم تعتمد على آراء المستشرقين الذين أنكروا على العرب والمسلمين تراثهم التصويري التشخيصي، معتمدين في ذلك على أحاديث غالبها مكذوب أو محوّر.

لم يتوقف هذا عند التصوير، بل تعداه إلى تعابير فنية أخرى كالشعر والرواية والموسيقى. فالرجوع إلى الأصول الصوفية للإبداع العربي لم يكن همَّه، فقط، ربط الصلة بمواقف فلسفية وروحية وفنية بقيت مهمشة ومكبوتة من طرف السلطة الدينية، بل كذلك لأنه يبرع في التلميح ويتحاشى التصريح.

نحن نعرف أن هناك عددا من الفنانين الأوروبيين، والفرنسيين منهم على وجه الخصوص، فطنوا إلى لعبة الحرب بين الغرب والشرق الأوروبيين، وقرروا عدم التبعية لكلا المعسكرين. أدى هذا إلى بروز تيار التشخيصية الجديدة. تيار التشخيصية الجديدة أو التشخيصية الحكائية (Figuration narrative) ظهر إبان حرب تحرير الجزائر، حيث أحس بعض الفنانين الفرنسيين بأنهم، وبعد أربعين سنة من التجريدية الغنائية أو الهندسية، لا يتوفرون على وسيلة أو طريقة للتعبير عن آرائهم السياسية والاجتماعية فنياً. وهنا ظهرت هذه الحركة التي سوف تتطور إلى تيار، وكان من أكبر مسانديه الفنان مارسيل دوشامب، الذي كان قد عبّر عن موقفه من التجريدية بعرض مبولته الشهيرة سنة 1917 في الولايات المتحدة الأميركية.

سؤالنا هو: لماذا لم يتعامل الفنانون العرب مع هذه التيارات الجديدة وبقوا مرتبطين ومتشبثين بالفن التجريدي الصامت؟ يبدو أن لما سُمي بسنوات الرصاص في المغرب وشبيهاتها بعدد كبير من الدول العربية دورا كبيرا في هذا الصمت الفني. إن للمرحلة السياسية التي أعقبت الاستقلالات الوطنية دورا كبيرا أثّر على الإنتاج الفني والثقافي. وإن للحرية وانعدامها علاقة وطيدة مع نوع الإبداع، خصوصا إذا عرفنا أن الفن المعاصر الحالي الذي تحول إلى النقد الاجتماعي والسياسي بشكل يكاد مغرقا في المباشرة، خصوصا بعد غليان الشوارع العربية إبان ما سُمي بالربيع العربي. فهل تخلّص الشباب من الخوف ووضعوا وراءهم إرث التجريد وصمته خلفهم؟ يلزمنا قليل من الوقت لنتأكد من ذلك.



صدى الشام