هاجس الهوية في الأدب
8 ديسمبر، 2016
أنجيل الشاعر
يقول أحد الكتاب: “الهوية بداهة، تعاش في الكون الاجتماعي بسلام، وتستعمل في الكون الطائفي استعمالًا مغرضًا، لبلبلة النفوس وإثارة الضغائن والأحقاد، أحد مظاهر هذا الاستعمال هو المفاضلة بين الأديان والمذاهب”. هكذا تصير الهوية قاتلة لذاتها والآخرين، بحسب تحليل أمين معلوف، الذي يقول: “إن نظرتنا هي التي تحتجز الآخرين في انتماءاتهم الأضيق، في أغلب الأحيان، ونظرتنا هي القادرة على تحريرهم أيضًا”. أو تحليل فتحي المسكيني، الذي يقول: “”نحن نعاني من فائض هوية لم يجد بعد الأفق الملائم لتجربة الذات التي تؤسسه”، أي: إننا هويات تتواجه، لا ذوات تتواصل.
في روايتها الأولى “في قلبي أنثى عبرية” الصادرة عن دار كيان عام 2014، قررت الكاتبة التونسية، خولة حمدي، (1984)، التي تعيش في فرنسا، أن تتحدث عن الأقليات المسيحية واليهودية، في العالم العربي، وتعايشها مع الإسلام، من خلال ربط الدين بالقومية العربية. يبدو هذا “التعايش” مفهومًا، بعدّ القومية ظاهرة علمانية حديثة، تأسست على حرية الضمير وتعايش الديانات والمذاهب المختلفة في المجتمع، في ظل “فصل الدين عن الدولة”، كما في فرنسا. ولكن القارئة والقارئ قد يفاجأا بأن القومية العربية والإسلام شيء واحد، وأن الكاتبة، التي تظن أنها تتحث عن الاندماج الاجتماعي، تفاضل بين الأديان، فتصف الديانتين المسيحية والإسلامية بالتسامح والتعايش، مع تفضيل الإسلام على الأديان كافة، وتصف الديانة اليهودية بالتعصب والتطرف، وتضع اليهودية وإسرائيل في “محور الشر” والعرب والإسلام في “محور الخير”، بحسب مصطلح السياسة الأميركية.
تلفت النظر في هذه الرواية ثلاثة أشياء:
أولها “تورط” أديبة شابة في المفاضلة بين الأديان والمذاهب، والمفاضلة تشعل فتيل الطائفية، بخلاف المقارنة الموضوعية التي تظهر ما في الأديان من خصائص مشتركة، إيجابية كانت أم سلبية، من وجهة نظر من تقارن، بغية “تحقيق تفاهمات ملموسة عابرة لحدود الأديان”، حسبما يرى كلاوس فون شتوش.
والثاني هو هشاشة الثقافة وسطحيتها، والثقافة هي خلفية الإبداع الأدبي والفني، إن لم تكن مولِّدته؛ إذ تقرر الكاتبة، بكل ثقة، أن “معظم يهود تونس قدموا من إسبانيا أواخر القرن الخامس عشر، بعد حرق معبدهم على يد نبوخذ نصر -ملك بابل- وسبي نسائهم، فتوافد اليهود إلى جزيرة جربة التونسية….”، وأسهبت في تاريخ اليهود، بما أثقل “الرواية” وأربكها.
والثالث هو عدّ الإسلام هوية ضائعة يجب البحث عنها والاهتداء إليها، من أجل النجاة في الآخرة؛ لأن المسلمين وحدهم لديهم مفاتيح الجنة، على نحو ما يقول فيديو ساخر.
تجري أحداث الرواية في زمن بطيء وهادئ وكسول، يتناسب طردًا مع شخصيات الرواية، على الرغم من أهوال الحرب والإرهاب، وفي مكانين مختلفين ينسجمان مع زمن الرواية. تحكي الرواية قصة فتاتين، جمعتهما المصادفة، تبحثان عن هوية، فوجدتاها في الدين الإسلامي. ريما، التونسية المسلمة، التي كفلتها أسرة يهودية، وندى اليهودية لأمها، من أب مسلم، هجرته زوجته (اليهودية) وتزوجت من مسيحي، فلا يقر لها قرار حتى تهتدي إلى دين أبيها (الإسلام).
“ريما” بطلة الرواية الأولى، فتاة تونسية مسلمة، تعيش في كنف عائلة يهودية بعد وفاة والديها، وتواظب على حضور دروس دينية في المسجد، لكن سرعان ما تفاجأت الأسرة اليهودية بالتزام ريما بالشريعة الإسلامية، بعد بلوغها سن الخامس عشرة، ما دعا الأسرة إلى التخلص منها بإرسالها إلى لبنان؛ حيث تقطن أخت يعقوب، رب الأسرة. تتعرض ريما للتعنيف ومحاولات اغتصاب من زوج الأخت، ما دعا أخت يعقوب إلى إيداع ريما عند أسرة أخرى في الجنوب اللبناني، حيث تتعرف ريما على “ندى”، وتتعرف ندى على أحمد، أحد رجال المقاومة، وهو مسلم أيضًا، وذلك حين أتاها بصديقه حسان مصابًا، من جراء القصف الإسرائيلي على الجنوب اللبناني، فتعاملت معه على أنه إنسان، قبل أن تعرف إلى أي دين ينتمي، فتنشأ بينهما قصة حب تنتهي بالزواج. لكن أحمد المقاوم أخذ يحثها على اعتناق الإسلام بطريقة ذكية.
أرادت الكاتبة أن تعالج مسألة التسامح الديني والاندماج الاجتماعي، من خلال الزواج المدني، فأسهبت في السرد وأطالت الشرح (تقع الرواية الواقعة في 772 صفحة من القطع المتوسط)، وأثارت كثيرًا من الأسئلة لدى القارئ، والسؤال الجوهري: هل الدين هو ما يشغل المجتمع العربي اليوم، وهو أقل ما يقال عنه أنه مجتمع مأزوم؟ أم إننا في أزمة إنسانية تتعدى كل معتقد أيديولوجي، لا يتمخض عنه إلاّ التعصب والانحياز نحو رفض الآخر واستبعاده.
تبرز في الرواية ثلاثة محاور أساسية:
المحور الأول: البحث في الأديان، مع التحيّز الواضح والصريح للدين الإسلامي، على أنه الدين الوحيد الذي يرتقي بالإنسان نحو إنسانيته، وما دونه أقليات تحتمي في ظله، وتنهج نهجه، وذلك بتصوير الكاتبة لندى، على سبيل المثال، فقد تملصت ندى من الدين اليهودي، واعتنقت الإسلام وهو دين والدها الذي لا تعرفه، وقد تربت على يد رجل مسيحي وهبها حرية المعتقد الأول وممارسة شعائره، ومن ثم؛ لم يعارض إسلامها. لم يصل إلى القارئ أن إسلام ندى نوع من حرية الاختيار، بل إن ما أرادت الكاتبة إيصاله أن الإنسان -من لحظة ولادته- يجب أن يكون على دين أبيه بالتحديد.
المحور الثاني: المحور التاريخي ليهود تونس، بوجه خاص، واليهود العرب بوجه عام، إذ تشرح الكاتبة، من خلال نبذة تاريخية في بداية الرواية، الفرق بين اليهودي العربي واليهودي الصهيوني، وتربط ذلك بالغزو الإسرائيلي لجنوبي لبنان، ومجزرة قانا وموقف يهود لبنان منها، وتعصبهم لطائفتهم، وعلى وجه التحديد النساء اليهوديات المتمثلات بـ “سونيا” أم ندى، كما أنها تطرقت إلى حادثة كنيس “الغريبة” في جربة عام 2002، كأن الكاتبة تقرأ خبرًا صحافيًا، أو نبأً في محطة تلفزيونية”.
المحور الثالث: البحث عن الذات من خلال الدين، كأن الهوية الدينية هي رمز إنسانية الإنسان، والمعيار الوحيد للتعامل مع الآخرين. وأن على الإنسان أن يختار الديانة التي تضمن له الخلاص، وتحقق له -في عوالم أخروية- كل ما حُرّم عليه، وحُرم منه، في الحياة الدينا.
بعد أن قرر أحمد القيام بعملية انتحارية، لينال شرف الشهادة، ووقع في الأسر، عاد بعد عامين فاقدًا ذاكرته، فأطلق عليه سكان إحدى القرى المحررة اسم “جون” ريثما يستعيد ذاكرته، تقول الكاتبة: “… فقد مرّ بمساجد كثيرة طوال السنتين الماضيتين اللتين أمضاهما سائحًا بين المدن والقرى، بحثًا عن هويته. كان يعلم أنه النداء لصلاة المسلمين، لكنه في هذه المرة بالذات، أحس بالنداء يخاطبه هو، هذا الشخص المجرد من الهوية، لم يكن جون، ولم يكن أحمد الذي تحرك باتجاه بوابة المسجد. كان شخصًا جديدًا لم تكتمل هويته بعد…”
الديانتان: المسيحية والإسلامية، بحسب رأي الكاتبة، متسامحتان، تدعوان إلى المحبة والسلام، أما الدين اليهودي فدين متعصب ومتزمت، لا يعترف بالآخر ولا يقبله، ويتمثل ذلك التعصب في شخصيات الرواية من النساء اليهوديات، معتمدة على ما أوكله الرب إلى المرأة اليهودية من تعاليم الدين ومعتقداته، (فاليهودي هو من كانت أمه يهودية).
أما الجنة فمقتصرة على من هو مسلم، فشخصيات الرواية من اليهود جعلتهم الكاتبة يعتنقون الدين الإسلامي، وينتحبون في أثناء قراءتهم القرآن، بما فيهم الطفلة سارا -ابنة يعقوب- البالغة من العمر ثمانية أعوام، السؤال الذي يطرح نفسه: هل لشخص لم يبلغ سن الرشد خيار حقيقي، أم أنه قادر على اتخاذ قرار مصيري؟ أليس هذا الخيار أشبه بزواج القاصرات؟
على الرغم من سلاسة الأسلوب، وبساطة اللغة، وإتقان الحبكة، إلاّ أن الرواية غير مقنعة، ومحبطة لمن لا ينتمون إلى الدين الإسلامي، علمًا أن بداية الرواية تبشر باندماج اجتماعي وزواج مختلط ببالغ اللطف والمودة، بخلاف نكوصها، في الفصول الأخيرة، إلى الهوية الدينية، وتفضيل الدين الإسلامي على غيره من الأديان؛ ما يتعارض مع حرية الاختيار.
في قلب أحمد أنثى عبرية، ليست يهودية، تعبر حدود الزمان والمكان، تلتحق بدينه وتنتمي إليه.
[sociallocker] [/sociallocker]