الثورة والجدل بصددها
9 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
عمار ديوب
لا يجادل أحدٌ حول حدوث الثورة من عدمه، إلّا من انحاز لرؤية النظام في أنّها إمارات سلفيّة وإرهابيّة ومؤامرة خارجيّة. ولكن من الصعب ألّا يرى مؤيدوها أنَّ الثورة دخلت في سيرورة مُعقّدة، وظهرت فيها ثورات مُضادة، تَكاد أن تُنهيها إنهاءً تامًا. أيضًا هناك نقاشٌ جديٌّ يُلحظ ويتكرّر في النقاش العام حولها، ويتعلق بأسبابها أو بمشكلاتها وممكناتها كذلك، ويذهب المفسرون لها بأسبابٍ تعود إلى انحياز الشعب للنظام أو صمته عنه منذ الستينيات، وهناك من يؤكد أن الصمت تكرّر مع الحركة التصحيحية، وكذلك في فترة الثمانينيات وهكذا، وأن الشعب يدفع حاليًا فاتورة صمته. وهناك من يعيد الثورة إلى عواملٍ اقتصادية أو دينية أو سياسية، إذن؛ هناك اختلاف متعدّد الأوجه لها. المشكلة أنَّ كثيرًا مما يُقدم كأسبابٍ لتفسيرها ليس بخطأ، الخطأ يتجلى في تكريسِ كل عامل وكأنّه العامل الأساسي لها، وكذلك برفع عوامل ثانوية إلى مستوى العامل الأساسيّ الحاسم في حدوثها.
الأسئلة السابقة تستدعي مدخلًا للتفسير، ويقول: لماذا لم تحدث الثورة في التواريخ التي ذكرتُها أو في فترة سابقة، ولماذا حدثت في 2011، وهل هي فعلًا استجابة لثوراتٍ إقليمية حدثت في تونس ومصر وغيرها. هنا نمسك مفصلًا لسبب الحدوث؛ فالثورة حدثت لأسبابٍ محددة مرتبطة بـ 2011، وبسياسات عامة انتهجتها الدولة بشكل كبير بعد الألفية الثانية، وليست متعلقة بالاستبداد فقط، فالأخير قديمٌ وشموليٌّ، وإنّما الأمر يتعلق بتضررٍ اجتماعي واسع، أخرج أغلبية الشعب السوري من الاستفادة من خدمات الدولة، وحوّلها إلى دولة لصالح مافيا اقتصادية وسياسية وأمنية بعينها؛ في ظل هذا الوضع اندلعت الثورة، وهو سياق الثورات العربية ذاتها. يمكن تحديد السبب المباشر بالسياسة الليبرالية الجديدة المتعلقة بتصفية قطاعات الدولة -أو رفع الحماية عن الاقتصاد بكليته- وبيعها أو تأجيرها لمافيات اقتصادية وسلطوية بعينها، وحرمان الأغلبية من “المنفعة”، وبالتالي؛ هُمّشت مصالح الكتلة الأكثر فقرًا وارتفع عددها وانخفض مستوى معيشتها وشعرت بمظالم كبرى ومتعددة الأوجه، وبالتالي؛ تشكّلت كتلة مجتمعية كبرى لها مصلحة في التغيير.
العامل الاقتصادي هو بالتحديد ما لعب دورًا مركزيًا في انهيار وضع الكتلة الأكبر، ولكن هذا العامل يرتكز على عواملٍ سياسيّةٍ استبدادية كبيرة متأصلة، ومظالم لا تحصى ومتعددة الأوجه؛ فهناك الديني والريفي والمناطقي والعشائري والقومي..، وهناك عاملٌ متعلقٌ بالاستبداد، وهو إغلاق منافذ حريات التعبير إغلاقًا كاملًا، وأي شكل من أشكال الحريات العامة، وبالتالي؛ لم يكن هناك أيّ متنفس للسوريين باستثناء دور العبادة، أو المنازل والعائلات. التعايش الطويل في هذا الوضع الاقتصادي والسياسي، وعلى أرضيّة حرب الثمانينيات، والتي لها وجهٌ طائفيٌّ منع العقل السياسي (عقل المعارضة وعقل الثورة) من صياغة أهداف الثورة والتفكير فيها تفكيرًا دقيقًا، وكذلك منع نشوء توافقاتٍ سياسيّة وطنية، وفي غياب نظامٍ وطنيٍّ وهو أمنيٌّ بامتياز، وواهمٌ بإمكانية سحق الثورة، كما فعل في الثمانينيات، وإن لم تكن ثورة حينذاك، فإن أفق السوريين صار متعلّقًا بالسير نحو الصدام العسكري والديني. ساهم في هذا الميل الوحيد رفض النظام لأي توافق مع المعارضة أو الثورة وبضعفه أمامها، كان لا بد من الاستعانة بالخارج، وبذلك فُتحت سورية لكلِ أشكال التدخل الإقليمي والدولي، وهذا بالضبط ما ساهم في مأساتنا الكبرى المستمرة.
الوضع السوري هذا بات حربًا مفتوحة، وهناك تهجيرٌ داخليٌّ وخارجيٌّ طال أكثر من 12 مليون إنسان، وتدميرٌ يكاد يشكّل أكثر من نصف سورية، وتقديرات عدد الشهداء يفوق النصف مليون عدا المصابين، وتدمير الاقتصاد يفوق المائتي مليار دولار، وبالتالي الوضع السوري ليس مجزرةً فحسب، بل دمارًا فاق كل دماء منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ما يجب النظر إليه مليًّا، أن سورية باتت مكتظة بالجيوش الأجنبية والمحلية، وهناك قواعد عسكرية لأكثر من دولة إمبريالية، فضلًا عن مليشيات طائفية تابعة لإيران، وبالتالي؛ هناك تعقيد عالي المستوى. هذا الوضع يفجّر آلامًا كبرى، ومشاعر عظمى حول كل ما حدث، وإذا كان ما حدث هو في سياق موضوعي تاريخي، وبغض النظر عن الأسباب التي دفعت بالثورة نحو تطورات مأسوية، وأقصد دور المعارضة والنظام بالتحديد، فإن ما حدث هو ثورة أولًا، ويصبح بذلك وبالمعنى السياسي لاغيًا السؤال الذي يقول “يا ليتها لم تحدث”، كما كتب الشاعر السوري منذر المصري مقالتين حول الموضوع أخيرًا في “راديو هنا صوتك”، وإن كان كتبهما من زاوية المأساة التي باتت عليها سورية، وليس من زاوية رفض الثورة جملة وتفصيلًا، كما شكك بها سياسيون تابعون للنظام منذ 2011.
هذا التعقيد المأساة و”الاحتلالات” يستدعي نقاشًا عميقًا، وطرح أسئلة: هل يمكن للثورة وللمعارضة ولكل الفاعلين السوريين، وأينما كانوا مواجهة هذا التعقيد، وخلق كتلة وطنية شعبية تحريرية؟ هذا هو السؤال الحاد والدقيق بالنسبة للسوريين، وهم يرون تجفيف النظام لمحيط دمشق من الثورة والتقدم الواسع له في ثاني أكبر مدينة سورية (حلب)، وأهمها من زاوية الفصائل المقاتلة للحلف الروسي والإيراني وللنظام. في هذا الإطار فإنّ علم السياسة يقول بضرورة وعي الواقع بكليته، الداخليّة والخارجيّة، وصياغة رؤية استراتيجيّة لكيفية الخروج من تعقيدات هذا الواقع. هذا النظر غيرُ ممكنٍ خارج سياق العمل الوطني، وبما يشمل كل أوجه المجتمع؛ فسورية -كما قلنا- باتت مدمرة اقتصاديًا، وهناك تهجيرٌ يفوق تعداده الملايين، وهناك مشكلة غياب مبادئ الديمقراطية في التعاطي مع الآخر، سواء أكان فردًا أم حزبًا أم شعبًا، وبالتالي؛ وضمن هذا التحليل، من أكبر الأخطاء الاعتقاد بأنّ هناك مهمةً واحدةً، وعلينا التصدي لها. إلا أن سورية -كما السياسة- تتضمن برنامجًا يناقش مشكلات المجتمع جميعها، وفي هذا الإطار يمكن أن تتقدم مهمة بعينها، وتتراجع لصالح مهمة أخرى، وهذا غيرُ الرأي الذي ينطلق من أن السياسة تتعلق بمهمةٍ واحدةٍ، وهنا شاع بين السوريين أن الأحزاب يجب أن تعمل في الإطار السياسي، وألا تخوض غمار الاقتصاد والتعليم والثقافة والدين، وهذا تفكير خطأ كليًا، ولا علاقة له بنزعِ الإيديولوجية، بل هو تفكيرٌ إيديولوجيٌّ بامتياز، فهو يحوز على طاقة تكفيرية لكل من يرى عكس ذلك.
إذن؛ ليس هناك جدلٌ فعليٌّ يتناول التشكيك بالثورة، ولكن الجدل مفتوح على مصراعيه؛ لمناقشة مشكلات الثورة والواقع، وبكل أوجه المعرفة والأدب والثقافة والسياسة وغيرها.
[sociallocker] [/sociallocker]