الترجمة ونقد الترجمة
9 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
بدر الدين عرودكي
في الأبواب التي تختارها الصفحات الثقافية في الصحف أو المواقع الإلكترونية العربية لتقديم الحياة الثقافية في مختلف وجوهها، لا وجود لباب مخصص لنقد ترجمات الكتب التي تلقي بها إلينا -كل يوم- دور النشر الرسمية أو الخاصة. لكن موضوع هذا النقد كثيرًا ما يثار خلال ويقتصر على المؤتمرات المخصصة للترجمة وللمترجمين، في صيغ مختلفة، لا تتجاوز الشكوى من مستوى الترجمات أو من ضعف برامجها أو من الخيارات التي تسم هذه البرامج، إن وجدت، سواء أكانت المؤسسات الثقافية الرسمية هي من وضعها أو دور النشر الخاصة. وربما لو وسَّعنا دائرة الاهتمام إلى الصفحات الثقافية الأجنبية لوجدنا فيها –أيضًا- غياب مثل هذا الباب، على الرغم من أن المشكلات التي تعتور ترجمة الكتب، من اللغات الأخرى إلى العربية، لا تختلف -إجمالًا- عن تلك التي تتم بين اللغات الأوربية أو بين هذه الأخيرة وسواها من لغات الشرق الأقصى كالصينية أو اليابانية.
لكن ما يعنينا هنا هو النقد الذي يتناول أهمَّ جوانب عملية الترجمة في الثقافة العربية اليوم: الجانب الأول يتضمن الخيارات الاستراتيجية في البرامج التي تضعها مؤسسات رسمية تمولها الحكومات، أو تلك التي تتبناها مؤسسات خاصة تعتمد على مساعدات حكومية أو خاصة، أو التي تسير عليها مختلف دور النشر في مشرق العالم العربي ومغربه؛ والثاني ينطوي على المشكلات التي تواجهها مؤسسات الترجمة الرسمية ودور النشر الخاصة؛ والثالث يشمل المشكلات التي يواجهها المترجم العربي اليوم؛ والرابع الترجمة في ذاتها، بما هي إنجاز ثقافي وأدبي، أقرب إلى المُبدعات الأدبية، حين نكون أمام ترجمة الأعمال الأدبية، وإلى الدراسات الفكرية، حين نكون بصدد ترجمة الكتب المختصة في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
صحيح أن معظم هذه الجوانب كانت ولا زالت، ولا سيما الثلاثة الأولى منها، تؤلف موضوعات تعالجها -عمومًا- بهذا القدر أو ذاك من العمق، مؤتمرات الترجمة شبه الدورية التي باتت تعقد في أكثر من بلد عربي وبخاصة في كلٍّ من مصر ولبنان والإمارات العربية المتحدة. لكن ذلك لا يعني أن هذه الموضوعات قد أشبعت بحثًا وتحليلًا. ولا أدل على ذلك من تعدد منظمي مؤتمرات الترجمة هذه، وتباين الأهداف من عقدها واختلاف السياسات الخاصة بها -بين بلد وآخر- وغياب أي تنسيق حقيقي -فيما بينها- على صعيد برامجها، رغم الإلحاح المتكرر على هذه الناحية بالذات، فضلًا عن افتقار المؤسسات المنظمة لهذه المؤتمرات، إلى السلطة والوسائل الضرورية التي يمكن لها بها أن تسير بمقررات هذه المؤتمرات -في حال وجودها- من الإمكان إلى حيز التنفيذ.
ليس من الممكن بالطبع في عجالة كهذه تناول كل هذه الجوانب بالبحث أو بالتحليل على أهميتهما؛ إلا أنه لابد من الإشارة إليها كلما فرضت الضرورة الاقتصار على تناول واحد منها، كي يفهم هذا الأخير في إطار مجمل العملية على الأقل. وبعبارة أخرى، ليس الهدف هنا إلا محاولة الخروج بهذه الموضوعات من قاعات المؤتمرات -على اختلافها- إلى فضاء الصحافة وجمهورها الواسع.
والمشكلة المعنية هنا هي تلك المُشار إليها في بداية المقال، ونعني بها نقد ترجمة الكتب التي تصدر، وطريقة الترجمة ومدى وطبيعة مقاربتها للنص الأصلي. من المؤكد أن غياب هذا النقد عن الفضاء الثقافي العام، يسهم في تفاقم المشكلة التي تعاني منها ترجمات الكتب الأدبية والفكرية في العالم العربي، والتي تتجسد لا في ما اعتدنا على تسميته السريعة والخاطئة بخيانة النص؛ بل بخيانة المهنة ذاتها وبمختلف الطرق.
ولا نقصد بنقد ترجمة الكتب هنا ما يمكن تسميته بالنقد التسويقي الذي يروج لمضمون هذا الكتاب المترجم أو ذاك، دون التطرق إلى عملية الترجمة ذاتها فيه. ما نعنيه هنا هو عملية مقارنة يقوم الناقد بها بين النص الأصلي للكتاب ونصّ الترجمة العربي.
من المؤكد أن هدف هذا النقد بالدرجة الأولى طمأنة قراء الترجمة إلى أن ما بين أيديهم كحدٍّ أدنى، إنما هي ترجمة احترمت النص الأصلي ووضعته باللغة العربية كاملًا غير منقوص. ومن هنا فإن أول مهام هذا النقد هو الوقوف على مدى التزام المترجم بكامل النص واحترامه له دون أي تدخل منه، حذفًا أو تعديلًا يمكن أن تحمله على القيام بواحد منهما أو بكليهما معًا، قناعاته الشخصية أو مواقفه الأيديولوجية أو حتى رأيه في مضمون الكتاب -كما حكم عليه- بسبب ما اعتبره “خطأ المؤلف” أو “قصوره عن الفهم” كما حدث بالفعل في بعض الترجمات المنشورة.
سوى أن هذه العملية النقدية تبقى أشد تعقيدًا في مجملها وعلى أكثر من صعيد. فهي تتطلب -مبدئيًا- أن يملك الناقد أولًا، فضلًا عن الثقافة الواسعة، معرفة عميقة بلغة الكتاب الأصلية وباللغة العربية. وأن يكون قد اكتسب ثانيًا خبرة غنية في الترجمة نظرية وممارسة، وأن يكون قادرًا ثالثًا على الفصل بين قراءته كمترجم للنص الأصلي والقراءة التي تقترحها الترجمة التي يقوم بنقدها. إذ ليس المطلوب من هذه العملية النقدية “مراجعة” الترجمة أو “تصحيحها”، بل النظر في طريقة مقاربتها أو قراءتها النص الأصلي؛ قربًا من أو بعدًا عن دلالاته في لغته الأصلية. هذا يعني أن شرح وتحليل هذه المقاربة سيقدِّمُ للقارئ الذي لا يعرف لغة النص الأصلية، بيانًا شاملًا -بهذه الترجمة- يسعه انطلاقًا منه أن يقوِّمَ ما يقرأه، آخذا بعين الاعتبار ضرورة التحفظ في تقويمه، بعد ما اطلع على نسبية الترجمة ذاتها، أيًا كانت براعة المترجم.
لكن الغاية الأشمل لهذه العملية النقدية تتجاوز -بالطبع- مجرد إعلام القارئ أو تنبيهه كي تمسّ في النهاية جوهر عملية الترجمة بالذات، بوصفها -من حيث المبدأ وبالضرورة- عملية مفتوحة، باستمرار، أمام المترجم نفسه، مادام قادرًا على إعادة النظر في صيغة ترجمته الأولى وتعديلها أو تصحيحها في سبيل اقتراب أكثر من النص أو، عند تعذر أو استحالة ذلك، أمام مترجمين آخرين ينتمون إلى جيل آخر، ويقومون بقراءة أخرى للنص الأصلي، تقرّ الترجمة السابقة أو تتجاوزها نحو قراءة جديدة، تستهدف ما أمكن من الدقة في مقاربتها الدلالات، وفي التعبير عنها. ومن ثمَّ فإن ما يمكن لناقد الترجمة في تحليله لمعطيات الترجمة أن ينوِّهَ عنه أو أن يشيد به، هو ما اكتشفه في النص المترجم من صلات وثيقة في التعبير وفي الدلالة، أو ما عثر عليه من صلات واهنة أو شبه معدومة بين النصين. ولابدّ له، في الحالين، من التعليل المفصّل بما يتيح لا للمترجم فحسب، بل لكل مترجم آخر، أن يشارك في هذا التحليل النقدي، وأن يستفيد منه بقدر ما يمكن له أن يغنيه من فضاء ممارسته وتجربته في الترجمة.
ليس هذا كما نرى عمل مؤسسات عامة أو خاصة، بل هو بالدرجة الأولى عملُ من نذروا أنفسهم -جزئيًا أو كليًا- لهذه المهنة، مهنة الترجمة، التي لا تزال تعاني -ممارسة وإنجازًا- كثيرًا من الآلام المبرّحة في العالم العربي، لا نتيجة غلبة المعايير التجارية والنفعية في فضائها -فحسب- بل كذلك بسبب غياب المعايير العلمية الصارمة التي كان يمكن أن تكون ناظمًا لها، في كل مجال وعلى كل صعيد.
[sociallocker] [/sociallocker]