مرثية للحلم الأميركي


إيناس حقي

film-2

من خلال مجموعة مقابلات مطولة مع أستاذ الألسنيات والمفكر والناشط السياسي، نعوم تشومسكي، يقدم المخرجون: بيتر هادشسون وكيلي نيكس وجارد سكوت، في فيلمهم الوثائقي المنتج العام الماضي، “مرثية للحلم الأميركي”، شرحًا تفصيليًا لما يسميه تشومسكي بـ “المبادئ العشرة الأساسية لتركز الثروة والسلطة”.

يقدم الفيلم شرح تشومسكي لكل من هذه المبادئ شرحًا تفصيليًا، ويرافقه بحلول بصرية إخراجية، أرادها مخرجو الفيلم الثلاثة وسائل تبسيط وإيضاح، إلا أنها تحولت إلى عبء إضافي، لم يكن للفيلم أن يتحمله، فكثافة الأفكار وتدفقها وانسجامها لم يكن يقطعه إلا التفاصيل البصرية والخدع والمؤثرات التي رافقت عرض كل مبدأ من المبادئ، وانتقال تشومسكي من فكرة إلى أخرى، لكن في المحصلة يبقى الحل البصري أقل قيمة في فيلم من هذا النوع؛ يهدف –في النهاية- إلى تلخيص فكر تشومسكي وتقديمه للمشاهد العادي.

مع انطلاقة الفيلم، يشرح تشومسكي سبب انهيار مفهوم الحلم الأميركي؛ بعد أن وصلت الفروق الطبقية إلى أقصى حدودها في الولايات المتحدة الأميركية، وانعدمت فرص المساواة بين المواطنين؛ إذ تتركز الثروة اليوم في يد نسبة لا تتجاوز الواحد بالمئة من السكان، ما حول الحلم الأميركي الذي كان متاحًا في أواسط القرن العشرين للجميع، ويسمح لأي شخص عادي أن يحصل على عمل، ويعيش عيشًا كريمًا، إلى حلم مستحيل.
يشرح تشومسكي أن الصلة بين الثروة والتشريع والسلطة خلقت في السنوات الأخيرة، دائرة مغلقة تعيد إنتاج الشر، وهذه الدائرة -بحسب تشومسكي- ليست إلا نتيجة مباشرة للمبادئ العشرة المتضمنة في الفيلم.

يشرح تشومسكي أن ما يعنيه بتقليص الديمقراطية -وهو المبدأ الأول- الحل الذي أوجده عالمنا المعاصر للفوارق الطبقية وانعدام التوازن في توزيع الثروة، وهو حل قائم على تعزيز الفوارق، وتركيز الثروة في أيدي القلة التي تتحكم بعملية صناعة القرار، ما نجم عنه -بالضرورة- تقليص الديمقراطية المعاصرة. وليست هذه المعضلة وليدة يومنا، فلطالما كانت الفئات الثرية تحاول الاحتفاظ بالامتيازات التي يوفرها المال، ولطالما ضغطت الفئات الفقيرة من أجل تحقيق الديمقراطية. ومنذ أيام أرسطو، كان الجدل حاميًا حولها، وقد اقترح أرسطو الحل الذي بدا له منطقيًا لها وهو: التوزيع العادل للثروة، إلا أن هذا الحل لم يوافق أصحاب الثروات، منذ ذلك الزمان.
يتمثل المبدأ الثاني: تشكيل الأيديولوجيا بخلق أيديولوجيا جديدة للمجتمع، وتستند أساسًا إلى إحلال مصلحة رجال الأعمال محل المصلحة الوطنية والقومية. فيما يقسم تشومسكي المبدأ الثالث: إعادة تصميم الاقتصاد إلى محورين أساسيين: تحويل الاقتصاد إلى اقتصاد مالي لا إنتاجي، ونقل الإنتاج الصناعي إلى خارج الولايات المتحدة؛ بحيث تربح المؤسسات الاقتصادية الكبرى مبالغ طائلة من تحريك الأموال، دون أن تضطر للإنتاج، وبحيث يتنافس العامل الأميركي مع كل عمال الطرف الآخر من العالم، الفقراء، غير المحميين بقوانين ولا نقابات، وغير المؤمّنين صحيًا.

film-1
يتداخل المبدآن الرابع والخامس – تحويل العبء ومهاجمة التكافل-، ويؤديان -في المحصلة- إلى نتيجة واحدة مرجوة: رغبة بالخلاص الفردي والتخلص من المجتمع، بوصفه كتلة متماسكة. ويقوم مبدأ نقل العبء على فرض الضرائب؛ بحيث تتناسب عكسًا مع حجم الثروة، فتدفع الشركات الاقتصادية الكبرى أقل قدر من الضرائب، فيما يحمل المواطن -صاحب الدخل الأقل- عبء الضريبة الأكبر، ويعتمد مبدأ مهاجمة التكافل على جعل الأشخاص غير معنيين بمساعدة الآخرين، ولا بالعناية ببعضهم، ويتضح أثر هذه السياسة في المجتمع الأميركي في المهاجمة المستمرة لنظامي المدراس الحكومية والضمان الاجتماعي، إذ لا يشعر المواطن بواجبه تجاه مساعدة أبناء حيه على التعلم، إن لم يكن لديه أطفال، ولا يرغب بحمل عبء مد يد العون لمن ليس لديه عمل.
يوضح تشومسكي مبدأ السيطرة على المشرعين من خلال الأنموذج الذي أرسته الإدارة الأميركية، بعد الأزمة المالية الأخيرة، وهو: “أكبر من الفشل”، حيث تقوم الحكومة بإقراض المؤسسات المالية والبنوك التي تسببت بالأزمة؛ حتى تمنع إفلاسها. تاريخيًا، قامت كل النظريات التي تخشى من قدرة المواطنين على التقدير الصحيح، بوضع مسؤوليات كبرى على نظم التشريع. الدولة تحكم بالقانون، والمواطنون يحصلون على حقوقهم في إطاره. لكن ما يحكم التشريع في الولايات المتحدة الأميركية اليوم هو عالم الأعمال.
في المبدأ السابع، يشرح تشومسكي كيف ترتفع كلفة الانتخابات الأميركية ارتفاعًا مضطردًا؛ ما يجعل المرشحين الرئاسيين يطلبون التمويل من رؤوس الأموال، وبذلك يصبح رأس المال متحكمًا برأس السلطة، ويدفع بتشريعات جديدة تحقق مصالح الفئة الثرية. ولا يبقى للمواطن في هذه الحلقة، سوى أثر وحيد هو صوته الذي يدلي به يوم الانتخاب.
يتنقل تشومسكي في المبدأ الثامن للحديث عن “ضبط الرعاع”، ويقوم هذا المبدأ على تفريق المواطنين وجعلهم يجابهون مشكلاتهم فرديًا، ويتحقق ذلك من خلال مهاجمة النقابات، وكل أشكال التنظيم التي يمكن أن تدفع بالعمل المدني والمجتمعي الجماعي إلى الأمام. لكن تشومسكي يؤكد -هنا- إيمانه بقدرة المواطنين على تحقيق الديمقراطية من خلال النضال معًا، وبشكل جماعي.
أما المبدأ التاسع، فيشرح باقتضاب فكرة “تصنيع الرضا”، التي توسع تشومسكي في تناولها في كتابه الذي حمل العنوان نفسه، وقد نجح الكتاب -كثيرًا- في انتقاد فكر كل من المنظرين: ليبمان وبيرنيز، اللذين حولا الإعلام الأميركي إلى معمل لتصنيع موافقة مجتمعية على التحولات التي تجري. فقد طرح والتر ليبمان في كتابه “جماهير الأشباح” مبدأ تصنيع الرضا الذي يقوم على وجود نخبة ممتازة تعرف مصلحة الجماهير التي لا تعرف ما تريد، وواجب هذه النخبة حسب ليبمان أن توجه رغبات وأفكار هذه الجماهير، مستخدمة وسائل الإعلام الجماهيرية. وقد صمم إدوارد بيرنيز أنموذج التحول من المواطنة إلى الاستهلاك بمنتهى الفاعلية، من خلال الإعلام، مؤسسًا بذلك العلاقات العامة. ما يقلق تشومسكي في هذا المجال، أن فن الإعلان يهدف اليوم إلى إنتاج مستهلكين يتخذون قرارات غير عقلانية، بناء على معلومات ناقصة، والأخطر بالنسبة له أن الإعلان لم يعد يسوق المنتجات والبضائع فحسب، بل يسوق السياسات والشخصيات السياسية؛ بما فيها رؤساء الولايات المتحدة، الذين يسوَّقون اليوم -بالضبط- كما تسوق معاجين الأسنان.
ويختم تشومسكي المبادئ العشرة بمبدأ تهميش الشعب، حيث تشعر غالبية الشعب بعدم قدرتها على التأثير في عملية صناعة القرار؛ ما يحول الشعب إلى مجموعة غاضبة، غير قادرة على التنظيم، ويدفع الشعب إلى تدمير ذاته بفقدانه الأمل.
على الرغم من الصورة المظلمة والسوداوية التي يرسمها الفيلم، إلا أنه يختار أن يختتم ببارقة أمل، يراها تشومسكي في قدرة الناس على التجمع والتغيير، معبرًا عن أفكار صديقه الراحل المؤرخ هاورد زن، كما يلي: “ما يهم حقًا هو العدد غير المنتهي من الإنجازات الصغيرة التي يحققها مجهولون، والتي تؤسس بمجموعها التاريخ البشري، وتصنع التغيير في المستقبل”




المصدر