جمانة
11 ديسمبر، 2016
رغدة حسن
أقف دائمًا أمام سؤال يتوجه إليّ، وأنا في مواجهة كاملة مع الحضور، في مهرجانات السينما المدججة بالعدسات المحترفة، كـ “قنّاصات” حرب: كيف يكون الكاتب مخلصًا للتجربة- الحياة؟ وتكون إجابتي هي ذاتها عمومًا: أن يكون شجاعًا.
في اعتقالي الثاني -بداية عام 2010- لم يترك نظام الأسد سجنًا أو فرع مخابرات إلا وأرسلني إليه، من فرع الأمن السياسي بطرطوس، إلى فرع الفيحاء بدمشق، إلى سجن عدرا السياسي، ثم سجن حمص المركزي، في أثناء فترة محاكمتي في المحكمة العسكرية، ليعاقبوني بإرسالي بعدها إلى سجن دوما للنساء في دمشق. وبعد محاولة الثوار الأحرار، تحرير النساء من سجن دوما، جرى نقلنا جميعًا إلى سجن عدرا المركزي لمدة شهرين، بعد ذلك، انتهى بي المطاف في سجن الريحانة في ريف دمشق، الذي جرى تجهيزه ليكون هو سجن النساء المركزي بعد تدمير سجن دوما.
رحلة غريبة عجيبة، يطلقون على مثل هذه التجربة في مصر “كعب داير”.
التقيت خلال هذه الرحلة بنساء، حياتهن تلخص معنى القهر؛ القهر المجبول بالخوف. وعبر وجوههن رأيت الواقع الحقيقي للبلاد، واقع سورية خلف الجدران؛ هناك حيث تعرفت إلى كل طبقات المجتمع، من طبقة الثراء الفاحش، والأكثر قربًا من السلطة، إلى الطبقة المسحوقة حد الجريمة، المهانة حد التمرد والكفر بالقوانين. والملفت أن كل السجون على مساحة البلاد متصلة ببعضها، عبر حبل سري، يتغذى من رحم النظام: شبكات، مافيات، عصابات، يتواصلون عبر الهواتف النقالة، في شيفرات غامضة، والأقوياء هم حكام السجون الفعليين.
كنت أعرف نظريًا عن هذا الواقع، الآن أنا في مواجهة معه، الأمور مكشوفة من دون أقنعة أو تجميل، عليك أن ترضخ لقانون المافيات، أو تٌقتل بكل بساطة، أو بالحد الأدنى، إعاقة دائمة، وما من جهة تحمي أحد، ولا قانون إلا قانون القتلة وتجار المخدرات الذي يخضع لهم –أيضًا- حراس السجون؛ أيّا كانت رتبتهم العسكرية.
هناك تطبخ الصفقات وتتأهب لتسوس البلاد.
ولأني “ضد الحكومة” هذا مسمى جريمتي بالنسبة للنساء، تمكنت من كسب ثقتهن عمومًا، مع حذر شديد بالتعامل من قبلي. وعلى الرغم من إحساسهن بفارق بيننا يصيبهن بالخجل، لأسباب كثيرة، أهمها اسم الجرم أو الجنحة التي ارتكبنها، إلا أني كنت أتقدم باتجاه أرواحهن، بقلب محب، وابتسامة لا تفارقني، وأذن صاغية لكل الآلام والهموم التي عشنها.
طبقة الأثرياء من السجينات، مدعومة بقوة الحراس، فرضت عليّ حصارًا مخيفًا، بتهديد الفتيات اللواتي كن يتقربن مني. وقد عوقبت أكثر من مرة بالحبس الانفرادي دون توجيه أي اتهام أو شرح للعقوبة، فالحكاية مكشوفة؛ فهم لا يريدون لأفكاري أن تسمم عقول الفتيات.
حين هلًت بشائر الربيع، وصارت النسوة تسألنني عن شرح مفردات ما يحدث: ما هو قانون الطوارئ؟ ماذا تعني كلمة تعسفي؟ ماذا يقصدون بمشاركة السلطة؟ هل هناك حقًا ثورة في سورية؟
كيف يتجرأ أي شخص على الوقوف بوجه الإله الحاكم؟
وصرت أجلس مع النسوة -يوميًّا- في حلقات؛ نتعلم -معًا- أبجدية الحرية، الكرامة، الوطن، والإنسان… كانت هذه المفردات بالنسبة لهن، كما لو أنها قادمة من أساطير بعيدة، قلن -بدموع حارقة، وشفاه متلعثمة- كلامًا كثيرًا عن الخبز اليومي، القهر، الخوف، الأطفال، التشرد… وصارت الحلقات تكبر وتتسع حتى لبعض الثريات، والمتدينات جدًا، والماجنات جدًا، والمجرمات جدًا، الكل كان يلين ويذرف دمع الندم أمام مفردة وطن. يسألن بلا توقف، يحاولن معرفة كل شيء عن أي شيء: ما يحدث في العالم، وفي سورية خصوصًا، وكيف سيكون بمقدورهن المشاركة في الحدث، إلى أن التقيت بجمانة.
كانت جمانة زعيمة بنات المخدرات، والكل يهابها من الشرطة والسجينات. تقربت مني بشكل غريب، فقط لأنني تعاملت معها بطريقة جيدة، وقدمت لها ما يمنحها الدفء في أثناء نوبة من نوبات إدمانها، قالت بكل جرأة: أنا أعرف ما يحدث خارج هذا السور، وأريد أن أشارك، لأني أحمل حقدًا هائلًا على كل شيء. “الحكومة” سبب كل المصائب التي نعيشها، الفقر، الحاجة، الضياع، السرقة، الاتجار بالمخدرات، القتل، الدعارة. هم فوق القانون ونحن تحت، تحت، أسفل السافلين؛ حين لا تكون هناك مصلحة أو حاجة تقتضي وجودنا. مستعدة لتحريك كل الأسلحة وسيارات التهريب والدراجات النارية بأمر مني. ما عليك أنتِ إلا أن تعطيني إشارة واحدة لنتحرك ونحرق بيوت الحكومة على رؤوسهم جميعًا، نحتاج فقط لمن يوجهنا.
صُدمت من وعيها لجذر المشكلة ومن طلبها، قلت لها: أنا لا أقرر بهذا الشأن، وحتى لو كان القرار يعود لي، فأنا لا أؤمن بالعنف، ولا أريد أن تغرق البلاد في بحر من الدماء.
كانت جادة جدًا في طلبها، حاولت معي كثيرًا أن أصلها بأي كان؛ كي تتحاور معه، لتقدم خبراتها وأدواتها الكثيرة في حرب الشوارع، لكني منعتها من المحاولة معي.
جاء رئيس السجن بعد هذه الجلسة، لأن صوتها كان عاليًا ومسموعًا، ولم يجد حلًا إلا أن يأمر بحبسي في السجن الانفرادي. ومن دون أي كلمة اقترب مني وأومأ إلي، لأنه لم يكن يجرؤ على النظر في وجهي، بعد أول مواجهة بيننا، حين جرى نقلي إلى سجنه. قام حينها بإحراق كتبي وصور أولادي في ساحة السجن، حبست دموعي وتقدمت نحوه بكل هدوء، وقلت له: سيكون لك المصير نفسه يومًا، قال أنا أنفذ الأوامر، قلت: ممن أوامرك؟ قال: من رئيسي؟ قلت: أنت ورئيسك إذًا إلى المصير نفسه.
خاف وأزبد ولم يعد يعرف ماذا يفعل، ثم صرخ بمساعديه: “خدوها لا تخلوها تشوف الضو”.
وفي كل مرة يأتي -هو شخصيًا- ويقف بقربي. أفهم ما يريد دون أن أسأله أو أناقشه. يريد استفزازي، ليكون لديه حجة لمعاقبتي -بالضرب والإهانة- كما يفعل مع باقي الفتيات، ويجعلهن يقبّلن قدميه ليصفح عنهن، ولا يعاقبهن بالحبس الانفرادي الذي يشكل رعبًا قاتلًا لكل النساء.
جمانة كانت تعلّق دائمًا على سلوكي ومواقفي قائلة: أنا أحترم كثيرًا مواقفك القوية، التي تقومين بها بصمت.
ذهبت، وكنت أعرف طريقي جيدًا. قيدوني وزجوني في الانفرادي، ولم تمضي ثوان إلا وصوت يأتي من بعيد كالانفجار الذي يكسر الصمت. كانت جمانة، تصرخ وتضرب على الأبواب في حالة عصيان وتمرد، لم يشهدها سجن النساء من قبل. تطالب بعودتي بإصرار عنيف، لدرجة أن إدارة السجن رضخت لها، بكل سفالة. حاول مدير السجن أن يهدئ من روعها، فأطلق سراحي من الانفرادي…
حين رأتني، تقدمت مني وعانقتني كأننا أصدقاء منذ دهور. قالت لي: “علمتيني كيف واجه الحكومة بطريقة بتوجع، بدون ما يتأذى حدا بريء، وبدون ما دمر حياتي وإنسى إني انسان”.
أجبتها بدوري: وأنت جعلتني أختبر معك ماذا تعني الشجاعة.
خبر وفاتها نتيجة جرعة زائدة، زلزلني واختصر دمعي كل القهر الذي كنت أعيشه، حزنًا عليها. عرفت لماذا غادرت الحياة بقرار واضح، وكانت قد أخبرتني سابقًا عن نيتها في تلقين حياتها درسًا إذا فشلت في اكتشاف طريق الخلاص.
تلقيت خبر وفاتها وأنا في الحرية، خارج الأسوار، ونفّذت وصيتها لي، والتي ستبقى سرًا بيننا! رحلت جمانة دون أن تشارك بملحمة الحرية، وقد كانت من القلة الذين يعرفون كيف يمكننا أن نتخلص من رأس الأفعى.
حين يطلب مني الإجابة عن السؤال الشهير: كيف يكون الكاتب مخلصًا للتجربة –الحياة؟
أستحضر ملامح جمانة المتمردة، القوية، الراغبة بتحطيم القانون الذي لا يحقق سعادة الإنسان. عبّرت بعفوية عن حلمها في أن تكون، وكانت تدرك معنى الحرية بفطرتها الأولى.
أستحضر وجوه النساء اللواتي عبرن حياتي وتجربتي هناك، وتركن آثارًا عميقة، شكلت درعًا يحمي روحي، وأنا أواجه الواقع بكل شجاعة.
أجل لقد علمتني جمانة معنى جديدًا للشجاعة.
[sociallocker] [/sociallocker]