لماذا ندعو للتنوير

11 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
8 minutes

أحمد الرمح

إن نجاح أي عملية تغيير سياسي وثقافي للمجتمع لا بد أن تُسبق بحركة تنوير، تكنّ الإرهاص لهذا التغيير؛ لتؤسس وعيًا له، وتشكل حاضنًا اجتماعيًا لدعمه، وإلا فإن حركات التغيير مهددة بالفشل والاندحار، ولا يمكن أن ينجح الإصلاح السياسي إنْ لم يسبق بإصلاح ديني وثقافي؛ إذ إنّ حركة التنوير ضامن لنجاح عمليات التغيير واللبنة الأولى فيها.

وما النهضة الحضارية التي تشهدها أوروبا اليوم، إلا ثمرة من ثمرات الإصلاح الديني لعصر التنوير الذي بدأه مارتن لوثر، ثم كالفن؛ حتى أن عالم الاجتماع السياسي، ماكس فيبر، قال: إن شبه الجزيرة الإيبيرية التي لم تتأثر بحركة الإصلاح الديني بقيت متخلفة حضاريًا عن المناطق الأوروبية الأخرى.

كما أن نهضة الولايات المتحدة قامت على إيدي أولئك المؤمنين بالتنوير من البروتستانت الذين اضطُهدوا في أوروبا آنذاك؛ فوجدوا ضالتهم في أرض الأحلام؛ ليصبحوا في أقل من قرن في مقدمة العالم، هذا معاصرًة؛ أما تاريخيًا، فإن النهضة التي حققها العرب حضاريًا يرجع الفضل فيها إلى رسالة الإسلام التنويرية التي بُعث بها الرسول محمد ﷺ إذ نقلتهم نقلة نوعية فسادوا العالم حضاريًا لقرون.

لكن العقل العربي عاد ليتكلّس بتوقفه عن التجديد والإصلاح ليغدو مقلدًا متبعًا، فقلَّ الإبداع وحلَّ الاتباع؛ وانعدم التجديد وقُدِسَ التقليد، وتجمّد العقل بسيطرة أهل النقل، فعادت المجتمعات الإسلامية للتخلف والانحطاط حتى وصلنا إلى هذه الحال المزرية التي نعيشها اليوم.

إن عقلنا يعاني من حال كمون وعطالة منذ القرن الثالث الهجري؛ عندما سيطر أهل الحديث على الساحة الفكرية والثقافية والعلمية، بعد هزيمة المعتزلة أمام الحنابلة؛ لتشكل تلك الهزيمة انتكاسة لا نظير لها للعقل المسلم؛ لا تزال آثارها السلبية ممتدة حتى يومنا هذا، وما السلفية الجهادية إلا وليدًا مشوهًا من ولادات تلك المدرسة المعطلة للعقل؛ المحنطة للنص؛ المحاربة للتنوير؛ حتى تحول العقل الإسلامي من عقل مبدع إلى عقل قياسي تقليدي يعتمد النصوصية التراثية واجتهادات السابقين وسيلًة لحلِّ مشكلاته دون إعمال للعقل وإدراك لمتغيرات العصر، لذلك لا بد أن توقد شرارة التنوير من جديد حتى يعود العقل مبدعًا لعلّنا نخرج من جّبِّ التخلف والانحطاط، ونمارس الشهود الحضاري الذي أراده القرآن أن يكون من مهماتنا الحيوية.

صحيح أن الإسلام قاعدته النص؛ ولكن الأصح أنّ أداة فهمه وتنزيله وتثويره وإدراك مقاصده هو العقل؛ وبالتالي؛ فإن الظاهرية في التعامل مع النص تجعله محنطًا غير قابل ولا قادر على محاكاة الواقع أو إيجاد حلول لمشكلاته. ولهذا يُسَجّل للعملاق عمر بن الخطاب أنه كان أول مجتهد في النص القرآني عندما أخرجه من ظاهره إلى مقاصده؛ ومن شكلانيته إلى جوهره؛ فكان المُجدد الإسلامي الأول بامتياز، حينما وجد الفهم الظاهري للنص يقف عائقًا أمام حلِّ مستحدثات واقعية؛ فذهب إلى روحه ومقاصده؛ فكان مبدعًا عقلانيًا، إنْ في مسألة قطع يد السارق؛ أو سهم المؤلفة قلوبهم، أو موضوع أرض سواد العراق، وبدلًا من أن ننطلق من هذا التجديد والتنوير (العُمَري)؛ لنحوله إلى منهج في التعامل مع النص؛ انقلبنا على أعقابنا وعدنا إلى ظاهرية مقيتة جعلت النص عاجزًا عن محاكاة الواقع وحلِّ مشكلاته؛ حتى وقع طلاق بائن ما بين النص والواقع ومتطلبات الحداثة. ولم يعد له أيَّ دور إلا تغني أصحاب الأصوات الجميلة به! وتلاوته على قبور الموتى! وفي الصراعات الأيديولوجية نستخدم بعض نصوصه عِضينيًا لمآرب سياسية وسلطوية

نخر العقل

ففي ظل اللاعقلانية تتمكن الخرافة من نخر العقل، وسيهيمن الفهم الأبوي بتقديس القراءة الظاهرية؛ عندئذ سيتربع الاستبداد طويلًا على صدرونا؛ ليقتل الطموح بالحرية فيموت الإبداع فينا؛ حتى تنعدم العدالة الاجتماعية، ولهذا نقول: إن التنوير هو الفريضة المغيبة؛ لأن تطهير عقولنا من الجهل والتخلف لا يقل أهمية عن تطهير المجتمع من الفساد والاستبداد؛ فلولا الأولى ما ابتلينا بالثانية!

وعندما يُقال بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان؛ هذا يعني أن فهم النص القرآني فهم متغير ومتبدل، بحسب حاجات وضرورات ومشكلات المجتمع؛ ولا يعني أبدًا القياس على أقوال تراثية والبحث في كتب السابقين عن حلول لمشكلاتنا، فعملية البحث عن أدويٍة لأمراضنا في صيدليات الأولين تشبه كثيرًا حالة من أصيب بمرض، وعلى الرغم من تقدم الطب والأدوية؛ يبقى مصرًا على تناول أعشاب من عند العطارين

إن مشكلاتنا تختلف جملة وتفصيلًا عن مشكلات عصر السلف؛ فإنْ كان همُهم واهتمامهم تثبيت مفاهيم الإيمان في عقول أبناء مجتمعاتهم أمام تحديات الفلسفية اليونانية وتأويلات الباطنية الفارسية؛ فإن همّنا واهتمامنا يرتكز على تثبيت معارف وثقافات؛ للخروج من تيٍه أدخلنا الاستبداد فيه فعرقل كل نهضة وتقدم؛ ولا مخرج من هذا التيه؛ إن لم نغرس ثقافة الديمقراطية في المجتمع كي لا نسمح للاستبداد أن ينبتَ ثانية، وندرك أهدافَ المجتمع المدني ووظيفته لنكسر سطوة الاستبداد على مفاصل المجتمع؛ ونخرج من كهف الدولة الدينية الناظرة لبعض أبنائها على أنهم أهل ذمّة، إلى فضاء دولة المواطنة الحيادية تجاه مواطنيها؛ لتعمل مؤسسات الدولة كلها لخدمتهم، بغض النظر عن جذورهم القومية أو الاعتقادية أو الطائفية، وأن يخضع الجميع مسؤولين ومواطنين لدستور متوافق عليه؛ وقانون لا يخرقه أحد، فنسعى جميعًا نحو عدالة اجتماعية تحقق للمواطن كرامته وتصون حريته.

كل ذلك لا يمكن أن يحصل ما لم تحدث حركة تنوير تعيد تعريف وظيفة الدين وعلاقته بالدولة ودوره بالمجتمع، ومهمة رأس السلطة؛ وحتى يتحقق ذلك، لا بد من مراجعات تعيد قراءة النص الديني قراءة عاقلة معاصرة بوصفنا مجتمعات (ثيولوجية)، يؤثر النص الديني فيها أكثر من أي شيء آخر؛ وقراءة جديدة غير عِضينية ولا ظاهرية ولا مقيدة بالمعرفة التراثية تعتمد العقل والواقع؛ حتى لا يستمر الطلاق ما بين النص والواقع وبيننا وبين الحداثة، لنصل إلى فهم جديد ومعاصر يحلُّ مشكلاتنا ويشفي عللنا الثقافية والاجتماعية والسياسية؛ لعلنا نصل إلى مصالحة تاريخية وشجاعة بين الإسلاميين والعلمانيين، يكون فيها الدين لله والوطن للجميع، والدولة محايدة؛ لا تكون فيها العلمانية ضد الدين، ولا ينظر الإسلاميون إلى العلمانيين على أنهم مرتدون، إنما هدفنا جميعًا الإنسان والمجتمع من أجل ذلك نريد التنوير وندعو له.

نحن مطالبون بفهم الواقع ومتطلباته؛ وإدراك أسباب الانحطاط؛ لمعرفة سُبل النهضة ومفاتيحها؛ ومكامن النمو ومقدمات نجاحه؛ لذلك كله لا بد من تنوير يزيل ظلام الاستبداد كي لا نجد شيخًا يشرعنه باسم الدين؛ ولا طالب سلطة يستخدم الدين للوصول إليها؛ فيمارس استبدادًا دينيًا بديلًا عن مستبد باسم العلمانية.

نريد تنويرًا يدرك أن قواعد الدين ثابتة وظروف العصر متغيرة؛ والاجتهاد يكون في الثابت لتحريكه لا تثبيت المتحرك أو استلابه إلى مجاهل التاريخ، إنّ حركة التنوير سُنة إلهية لنهضة المجتمعات؛ حتى يبزغ فجر الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية؛ كي ننهض ثانيًة ومن لا يصدق هذا؛ فليقرأ تاريخ النهضة مرة أخرى.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]