فرنسوا ميتران الرئيس العاشق كتب 1200 رسالة حب


فوجئت الأوساط الأدبية والسياسية في فرنسا أخيراً، بصدور كتابيْن ضخميْن يضمّان الرسائل واليوميات التي كان الرئيس الفرنسي الراحل، فرنسوا ميتران، يوجّهها يومياً إلى آن بينجو، عشيقته السرّية التي ارتبط بها من 1962 حتى وفاتِه عام 1996. وقد ظلت هذه العلاقة طيّ الكتمان إلى الثمانينات، إذ عُرفتْ علاقتهما بعد ميلاد ابنتهما مازارين. يحمل عنوان الكتاب الأول «يوميات من أجل آنْ» (دار غاليمار)،

يتألف من 500 صفحة ويمتد على مدار ستّ سنوات من 1964 حتى 1970، وهو عبارة عن تسجيل يومي لنشاطات ميتران في مجال السياسة والأسفار وقراءة الصحف والكتب، واجتماعاته مع المناضلين والتحضير لإنشاء حزب يوحّد مختلف فصائل اليسار… واللافت في هذه اليوميات، الجهد الكبير المبذول في إثبات مقتطفات وصور من الصحف والمجلات، وَرصْدِ أهم الأحداث التي تشغل الرأي العام الفرنسي والعالمي. ولا تكاد تخلو بطاقة من كلمات حب وشوق إلى آنْ، يدسها وسط تعليقاته وسرده لما أنجزه خلال كل يوم. إلا أن الجانب الأهمّ في هذه اليوميات، التوثيق للمشاريع والمواقف السياسية التي سعى ميتران إلى تحقيقها، والطريقة التي كان يشتغل بها للوصول إلى أهدافه الكبرى. وهو ما يضفي على اليوميات أهمية تاريخية وأوتوبيوغرافية تسبرُ أعماق قائد كبير طالما التحَفَ بالصمت والتكتُّم.

أمّا الكتاب الذي يحمل عنوان «رسائل إلى آنْ» (1962 – 1995)، عن دار غاليمار أيضاً، فإنه يشتمل على أكثر من ألف ومائتين وخمسين صفحة. وهو يضم مجموع الرسائل التي وجهها إلى آنْ على امتداد ثلاثٍ وثلاثين سنة. وهي تشتمل على عواطف الحب المتجددة التي يختزنها قلبُ فرنسوا، ولا يتعب من التعبير عنها في أشكال وكلمات تختلف صيَغُها، لكنها تؤول جميعها إلى ذلك الدفق الرومنطيقي الذي يبدو معه أحياناً، كاتبُ الرسائل كأنه مراهق يجرب الغرام للمرة الأولى. إلا أن هذا الهيام سرعان ما يقنعنا بصدق عاطفة فرنسوا تجاه آنْ. ولأنه متزوج وأب، وشخصية سياسية مرموقة، وقد تعلق بفتاة في سنّ العشرين، بعدما جاوز الأربعين من عمره، فإننا ندرك الطابع المأسوي لهذه العلاقة التي جعل منها ميتران طوق نجاةٍ يتشبث به، ليقاوم فتور عاطفته تجاه زوجته ويستند إليها وهو يخوض رحلته السياسية صوب رئاسة الجمهورية.

بعبارة ثانية، جعل من هذا الحب مقفزاً يستعين به في رحلته الطويلة، الشاقة، نحو المجد والسلطة. وهو يدرك أيضاً أن هذه العلاقة محفوفة بالآلام، وأن المحبوبة ستدفع ثمناً باهظا ًفي قبولها هذا الحب. يقول لها في رسالة بتاريخ 12 كانون الثاني (يناير) 1966: «عليك أن تعلمي أنني آخذ في الحُسبان إلى أي حدّ يصعب عليك أن تعيشي كلّ يومٍ في توافُق مع جميع تطلعاتِ كينونتك. أنا أيضاً أغضب من نفسي لأنني لا أساعدكِ جيداً، ولأنني أزيد الأمور تعقيداً، ولا أقدم إليكِ، إذا ما قدمتُ، طمأنينة ًمُساوقة للحبّ الذي يجمعنا. أنتِ تعلمين أن الحب ألمٌ بين اثنيْن».

ويستشعر وحدتها وطريق الأشواك التي تسير عليه إذ قبلت الاستجابة لعواطفه، فيكتب إليها في العام نفسه: «يقول أراغون: من أين يأتيني هذا الحزن الكبير؟ لا الصعتر ولا إكليل الجبل، احتفظا بِعِطر الدموع»… يا حُبي، يا آني، قبل أن أنام أكتب إليكِ هذه السطور. ما زلت أحتفظ في أذني بكلماتكِ، بخاصة كلمة: الوحدة. أنتِ إذاً وحيدة. كان لديّ شعور قويّ بأنني أمنحكِ حضوراً، هو حضور حبي المستمر، الحيّ، الشغوف إلى درجة تجعلني مضطرباً في شكل فظيع. أكاد أسقط من التعب، ولن أقول لكِ هذا المساء سوى العبارات القديمة: أحبكِ، أنا لك، أنا حزين، شقيّ بسببك، أقبّلك (…) أحلم بخطواتنا المتناسقة، وقلبي الخافق هو نفسه الذي كان يتوغّل منذ سنتيْن، في يأس الانتظار يوماً بيوْم. أحبكِ…».

إلى جانب هذه العاطفة المتدفّقة التي تعبر عنها رسائل ميتران، إلى ما قبل وفاته ببضعة أشهر، ثمة عنصر آخر يلفت النظر، وهو سعة ثقافته ومتابعته المسرح والأدب ومعارض الفنون المختلفة. وقد سبق له أن نشر كتباً في التاريخ والفكر السياسي، إلا أن هذه الرسائل تكشف اطلاعه على أهم ما أنتجه الفن والأدب في عصره وفي عصور سالفة. ومن ثم، جمال أسلوبه ورشاقة لغته التي تقوده، أحياناً، إلى صوغ قصائد قصيرة يضمنها رسائله إلى آنْ المعشوقة. للأسف، إن السيدة آنْ بينجو التي نشرت هذه الرسائل، لم تنشر رسائلها إلى فرنسوا، وكل ما نعرفه عنها أنها متخصصة في فنّ النحت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأنها كانت مديرة لمتحف «كي دورسي» في باريس. غير أن رسائل فرنسوا تشعرنا بأن آنْ كانت أيضاً واسعة الثقافة، مهتمة بالفنون. ومن خلال بعض الإشارات، ندرك أنها تنتمي إلى عائلة غنية، محافظة، وعلى رغم ذلك خاضت غمار هذه المغامرة التي تنتهك تقاليد الأسرة، وتعاليم الكاثوليكية، راضية بأن تعيش في الظل، محرومة من تكوين أسرة في واضحة النهار. ومن ثم، تُطالعنا رسائل تكشف توتّر العلاقة الغرامية والآلام التي صاحبتْها. نجد مثلاً على ذلك، رسالة كتبها فرنسوا بتاريخ 28 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1971، يقول فيها: «يوم غريب. طلبتِ مني أن نلتقي في شارع ليزانفاليد. كنتُ أنتظركِ بقلبٍ فرحان. كان الجو مدهشاً. وصلتِ في الثانية عشرة والنصف، أحبّ مشيتكِ. ابتسمتِ لي. ذهبنا لشراء هدية زواج ماري فرانس ديلاك(…) كانت تبدو عليك انفعالات بسببِ عودتنا إلى الحي المرتبط بعلاقتنا في سنتها الأولى. استحضرنا سعادتنا. فجأة، اكفهْررْتِ: «علينا أن نفترق». تلفظتِ هذه العبارة بطريقة جافة. ماذا؟ هل انتهى ما بيننا؟ نسيتُ نهاية الأسبوع التي أمضيناها في النورماندي، وحبكِ المجنون، المحزن. أوصلتكِ إلى متحف رودانْ. ولا نظرة منكِ(…) كنتُ قد اقترحتُ عليكِ أن نذهب إلى مسرح مونبارناس لمشاهدة «كان ذلك بالأمس» للكاتب بانتيرْ. عبوس في وجهك، ثم وافقتِ. جئت لمصاحبتكِ. داخل المسرح، ذراعكِ مُلتصقة بذراعي. لحظة سلامٍ هنيّة. رجعنا إلى بيتنا، رقم 36. عشاء خفيف، ثم بدأتْ ليلة هي الأكثر حناناً والأكثر تمازجاً وانصهاراً. يوم غريب».

إن حجم الكتابيْن لا يسمح بقراءة كاملة لهما، بل تصبح حصة القراءة عبارة عن سياحة متنقلة، والخيط الناظم بينها هو قصة الحب بين ميتران وعشيقته السرية التي منحته بنتاً اضطر إلى الاعتراف بها. وبعيداً من الشكليات الاجتماعية، تقودنا هذه اليوميات والرسائل إلى ملامسة جوانب لها علاقة بالحقليْن الثقافي والسياسي في فرنسا. وما أثار انتباهي أولاً، أن الكتابيْن هما في مثابة كتابة من وراء القبر: كأنّ ميترانْ يريد أن يشغل الناس بعد موته، بعدما شغلهم وهو على قيْدِ الحياة. وما جاء في الرسائل يضيء جوانب مجهولة من حياة الرئيس ميترانْ، ويقدم في الآن عينه عناصر ذات طابع توثيقي عن الحياة السياسية ما بين الخمسينات والتسعينات في فرنسا. ذلك أن ميتران انخرط مبكراً في السياسة، واضطلع بمهام ومسؤوليات، ولعب دوراً أساسياً في توحيد الحزب الاشتراكي وعودته إلى الحكم سنة 1981. لكن قيمة الرسائل، قبل كل شيء، تتمثل في القدرة على البوْح والتعبير عن عاطفة نبيلة تضفي على ميترانْ رئيس الجمهورية، سماتٍ إنسانية خالية من النفاق والغطرسة. ذلك أن الحب يُعيد الى اللغة صفاءها، والى العواطف قوتها، على نحو ما نجده في العبارة التي خاطب بها فرنسوا آنْ المحبوبة: «لقد كنتِ حظّي في الحياة، كيف لا أحبكِ أكثر؟».



صدى الشام