رحيل صادق جلال العظم الثورة السورية تفقد صوتها الشجاع

13 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
13 minutes

جيرون

عند انتصاف ليلة الأحد 12 كانون ثاني/ ديسمبر الحالي، تأكد خبر رحيل المفكر والفيلسوف السوري، صادق جلال العظم، في برلين، بعيدًا عن بيته الدمشقي في المهاجرين، عن عمر ناهز ال 82 سنةً، ليخسر النزوع العقلاني برحيله، أحد أبرز ممثليه.

العظم، ذو العقل الفلسفي الجسور، والضمير الأخلاقي الحي، والذي أمضى جلّ عمره أستاذًا جامعيًا، مدرسًا للفلسفة في جامعات عربية وعالمية كثيرة، يُعدُّ أنموذجًا للمثقف السوري الحر الشجاع، فقد تحلى منذ مطلع شبابه بالجرأة، وثار على المألوف والسائد، ولم يهادن سلطة البعث التي حكمت –ومازالت تحكم- سورية على مدار خمسة عقود، وشكل علامة فارقة في الثقافة العربية، وفي تنمية الثقافة النقدية، والتأسيس لثورة فكرية في الوطن العربي، ولا سيما في المشرق منه، وأعطى موقفًا صريحًا وواضحًا من الربيع العربي عمومًا، والثورة السورية على الخصوص منذ البدايات، دون اشتراط أو تلعثم، فلا ادّعاءات نخبويّة، ولا تقسيم للمجتمع إلى “نخبة” و”عامة”، كما اعتاد مثقفو جيله على الفعل.

وهو بلا شك من أهمّ مفكري التنوير والعلمانية والعقلانية والتمدن والحداثة والمقاربة النقدية للتراث في وطننا العربي، منذ أن ألقى عام 1969 حجَرًا ضخمًا في بُركة (فكر) العرب والمسلمين الساكنة، حين أصدر كتابه المفاجئ المرصوص “نقد الفكر الديني”، الذي هز كيان الأوساط الثقافية والدينية والجامعية، وأحاله الى المحاكمات، فسُجن ثم بُرّئ، وأثار ردود فعل ساخنة متباينة في أوساط الشباب العربي سنتذاك.

وعلى الرغم من كل الصعاب التي واجهها في حياته، وفي مسيرته العلمية، فقد واصل العظم رحلته المتمردة بفكره النقدي التنويري، وكتاباته وأطروحاته غير التقليدية لقضايا فكرية وثقافية وسياسية واجتماعية، في مجتمع ذي حساسية بالغة تجاه الدين والدولة، والتي بدأها منذ أواخر ستينيات القرن الماضي.

الواقع السوري الراهن و“العلوية السياسية”

“النقد الذاتي بعد الهزيمة”، و”نقد الفكر الديني”، و”ذهنية التحريم”، و”دفاعًا عن المادّية والتاريخ”، إنها بعض عناوين كتب صادق جلال العظم، الذي كان يثير الجدل والنقاش حول مواقفه والأسئلة الإشكالية التي يثيرها، بطرقه أبوابًا محظورة في عالم الفكر والثقافة والاجتماع والسياسة. وقد أثارت مقولته وطروحاته حول “العلوية السياسية” جدلًا واسعًا ونقاشًا صاخبًا، -وبخاصة- بين النخب السياسية الفكرية السورية، وبالدرجة الأولى المعارضة منها. وقد واجه الراحل هذا الجدل والنقاش، في حوار أجرته معه في محطة (DW عربية) الألمانية، في آب/ أغسطس من العام الماضي، بالقول: “أرحب بالنقاش الواسع والجدال الصاخب اللذين نتجا عن مقولة “العلوية السياسية”. إن فتح باب النقاش والسجال حول هذه المسائل -على مصراعيه- ضروري ومفيد للثورة السورية، ولسورية عمومًا. فالغرض من طرحها هو التقاط جانب مهم وحاسم من الواقع السوري الراهن، على مستوى التجريد الذهني. هذا مطلوب لأني لاحظت أن المناقشات العلنية للثورة السورية تتأبى التطرق إلى مشكلات الطائفية والمذهبية والإثنية والأكثرية والأقلية؛ خوفًا من صب الزيت على النار. في حين أن أحاديث الجلسات الخاصة والمناقشات المغلقة لا تدور إلا حول هذه المواضيع”. وتابع قائلًا: “أما الواقع المطلوب التقاطه، فيمكن تحديده عبر التجربة الذهنية التالية: هل بإمكانك أن تتصور سيادة الوضع التالي في مصر: رئيس الجمهورية قبطي إلى الأبد، قائد الجيش قبطي إلى الأبد، أُمراء ضباط القوات المسلحة -في غالبيتهم- أقباط إلى الأبد، رؤوساء الفروع الأمنية والشرطة وقوات حفظ النظام أقباط كلهم، وإلى الأبد، المناصب الحساسة والعليا وصاحبة القرار في مفاصل الدولة كلها بيد نخب من الأقلية القبطية؟ هل بإمكانك أن تتصور كذلك، احتكار هذه المناصب والوظائف كلها -في تركيا مثلًا- من جانب نخب كردية أو علوية حصرًا وإلى الأبد؟ هذا الوضع غير القابل للتصور في مصر وتركيا، هو القائم في سورية منذ عقود طويلة. هذا هو المعنى الأول للعلوية السياسية، وهذا هو السبب في استحالة استمرارها، مهما كرر رموزها عبارة (إلى الأبد)، وحاولوا تكريس طقوسها”. يضيف العظم: “ذهب بعضهم إلى أنه، ومنذ قدوم الأسد الابن إلى الحكم، أصبحت هناك “علوية اقتصادية” تضاف إلى السياسية، وبعضهم ذهب بعيدًا إلى حد الحديث عن محاولات جرت لـ “علونة المجتمع”؛ هل أخرجت العفريت من قمقمه؟”. ويردف: “لا محتوى جديدًا في هذه المقولات، بل تأتي من باب الإشارة إلى مفاعيل العلوية السياسية، منظورًا إليها من زوايا اجتماعية أو اقتصادية أو أمنية. تبقى كلها مشتقة من المقولة الأساس: “العلوية السياسية”. لهذا السبب؛ شبهت العلوية السياسية بالاستثناء العجيب الآخر وهو “المارونية السياسية” في لبنان، والتي سقطت بفعل الحرب الأهلية هناك، وكُرس سقوطها في اتفاق الطائف”. ويختم قائلًا: “لا أعتقد أن الحديث عن العلوية السياسية، وما تفرع عنها من “علويات”، تقود بالضرورة إلى مزيد من تأجيج نار الكراهية الطائفية في سورية؛ فالتعبئة الطائفية والمذهبية والإثنية -في سورية اليوم- وصلت إلى أعلى درجاتها، وما من حديث حول العلوية السياسية، أو غيرها، يمكن أن يزيد أو ينقص من مستوى هذه التعبئة، وهذا الشحن. في الثورة السورية جناح ثأري يريد الانتقام من الطائفة العلوية ذاتها، وليس من العلوية السياسية ومؤسساتها المعروفة فقط. ومن أجل سورية المستقبل، يجب التأكيد دومًا أن المطلوب هو الإطاحة بالعلوية السياسية وليس بالطائفة العلوية، تمامًا كما حدث في لبنان. حيث جرت الإطاحة بالمارونية السياسية، وبقيت الطائفة المارونية سالمة سليمة، تقوم بدورها الطبيعي في حياة المجتمع اللبناني، علمًا أن “المارونية السياسية” عاشت وهمًا شبيهًا بوهم (سوريا الأسد إلى الأبد)، أي: المارونية السياسية هي لبنان إلى الأبد، ولبنان هو المارونية السياسية إلى الأبد.

“ميدالية غوتة” والمعارك النقدية وكسر الثالوث المحرم

يتحدّر العظم المولود في دمشق عام 1934، من عائلة أرستقراطية دمشقية عريقة، ذات جذور عثمانية وفروع تركية. درس الفلسفة في “الجامعة الأميركية” في بيروت، وبعدها تابع دراسته الأكاديمية في “جامعة ييل” الأميركية بأطروحة عن “كانط”.

درّس الفلسفة في جامعات عديدة، في دمشق وبيروت وعمّان وهامبورغ وأمستردام وبرنستون، وأمضى حياته متنقلًا من جبهة فكرية إلى أخرى، وخاض معارك نقدية مختلفة بسبب كتاباته، حيث حوكم بسبب كتابه “نقد الفكر الديني”، وسُجن قبل أن تقرر المحكمة براءته.

في أثناء عمله أستاذًا في الجامعة الأميركية في بيروت، رفضت الإدارة تجديد عقده سنة 1968، وفُصل بسبب انزعاجها من كتاباته، وتوقيعه عريضة تطالب بانسحاب الجيش الأميركي من فيتنام. بعدئذ، ذهب إلى عمّان ودرّس في الجامعة الأردنية، لكن سرعان ما وُضع اسمه على قائمة الممنوعين من دخول البلد، ووُضع هو نفسه في أول طائرة متوجهة إلى بيروت، بسبب عمله مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.

وفي بيروت، ازداد انشغال العظم بالهمّ الفلسطيني، فعمل باحثًا في «مركز الأبحاث الفلسطيني» وأصدر كتاب “دراسات نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية”، فأثار غضب القيادة الفلسطينية، وتلقى تهديدات جديّة، وفُصل من مركز الأبحاث بأمر من ياسر عرفات، ومُنع من الكتابة في مجلة “شؤون فلسطينية”، إلا أن المفكر الفلسطيني الراحل، أنيس صايغ، رئيس التحرير وقتذاك، تدبّر مسألة استمراره في المجلة باسم مستعار.

وفي ثمانينيات القرن العشرين، عاد إلى جامعة دمشق أستاذًا في قسم الفلسفة. دُعي للتدريس في «جامعة برنستون» خمس سنوات، وعاد مجددًا للتدريس إلى دمشق، فشغل منصب رئيس قسم الفلسفة في «جامعة دمشق»؛ حتى تقاعده سنة 1999، ليتفرّغ بعدها للكتابة.

صدر للعظم، الذي انتقل إلى ألمانيا بعد بداية الحراك الثوري في سورية، عديدًا من الأبحاث والكتب، من أبرزها: “النقد الذاتي بعد الهزيمة” 1968؛ “نقد الفكر الديني” 1969؛ “دراسات يسارية حول القضية الفلسطينية” 1970؛ “دراسة نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية” 1973؛ “الصهيونية والصراع الطبقي” 1975؛ “سياسة كارتر ومنظرو الحقبة السعودية” 1977؛ “زيارة السادات وبؤس السلام العادل” 1978؛ “الاستشراق والاستشراق معكوسًا” 1981؛ “دفاعًا عن المادّية والتاريخ” 1990؛ “ذهنية التحريم، سلمان رشدي وحقيقة الأدب” 1994.

وفي 2008 صدور كتاب “هذه المحرّمات التي تسكننا” بالفرنسية، يتضمن مقالات ودراسات حديثة، مسبوقة بحوار طويل أجراه صقر أبو فخر، ونُشر بالعربية في كتاب بعنوان “حوار بلا ضفاف” عام 1998.

كُرّم العظم في أكثر من مناسبة خلال مسيرته، وكان آخرها منحه “معهد غوته” جائزته “ميدالية غوتة” لعام 2015، وذلك تقديرًا لأعماله ومساهماته الفكرية، ودفاعه عن قيم الديمقراطية وسيادة القانون وحرية الفكر والتعبير وحقوق الإنسان. وقد قال جلال صادق العظم يومئذ: “شرف كبير لي، وفخر أكبر أن تكرمني الجمهورية الاتحادية الألمانية بهذا الوسام، وأن تقترب خاتمة فاعليتي في الحياة الثقافية العربية على وقع الاحتفال بتقليدي ميدالية غوتة”. وأضاف: “أبدأ كلامي بالتذكير بكتاب المفكر السورى الراحل، بوعلى ياسين، حول (الثالوث المحرم) في ثقافتنا العربية السائدة أي: الدين والسياسة والجنس، يتركز إسهامي -هنا- في أني كسرت الثالوث المحرم هذا، وخرقته على الأصعدة الفكرية والنقدية والاجتماعية والسجالية؛ وبصورة مباشرة لا مراوغة فيها أو لف ودوران حول الموضوع، هربًا من مسه مباشرة. يعدّ هذا -بحد ذاته- تكريسًا عمليًا، وبالممارسة لحرية الفكر والتعبير ولديمقراطية النقاش والسجال في المجتمع. من ناحية أخرى ساعد نشاطي الكتابي باللغتين: العربية والإنكليزية (إضافة إلى الترجمات إلى لغات أخرى) في توريط أوروبا في القضايا الفكرية والثقافية المطروحة -اليوم- على بساط البحث والنقاش، عربيًا وإسلاميًا: الأصالة والمعاصرة، التراث والتجديد، النقل والعقل، العلم والدين، الجهاد والإرهاب، الاستشراق والاستغراب، الغزو الثقافي والتحديث وغيرها. كما ساعد في توريط الفكر العربي -وبعض الإسلامي عمومًا- في قضايا معاصرة حيوية وضاغطة: المجتمع المدني، العلمانية، الإصلاح الديني، النص والتأويل، حقوق الإنسان والمواطن، الديمقراطية، الحريات العامة، حرية الفكر والضمير والتعبير وما إليه. ربما كان إسهامي الأفضل في المساعدة على تعزيز قيمة حرية التعبير عمومًا، هو دفاعي العملي والصريح عن سلمان رشدي، وروايته “الآيات الشيطانية” ، وتفنيدي فتوى الخميني بقتله”.

أخيرًا، ليس لنا أن نقول في وداع السوري النبيل صادق جلال العظم، الذي قدم مثالًا نادرًا عن النزاهة والاستقامة في هذه المرحلة الثورية التي تمرّ بها سورية، والتي لا مثيل لها في تاريخ البلاد الحديث، نقول: إن من يترك فكرًا حيًا لا يُغيبه موت، ولن ينساه التاريخ، لأنه سيبقى جزءًا من ذاكرة الثقافة السورية والعربية، بل جزءًا من تاريخ الأفكار، والأفكار خالدة لا تموت.

كما لا يسعنا في هذا المقام، إلا أن نبارك مُنجز ابنيه” “عمرو” و”إيفان”، اللذين أعلنا عنه قبل أيام، في الوقت الذي كان والدهما يواجه آلام النهايات في أحد مستشفيات برلين، ألا وهو تأسيس جمعية وموقع إلكتروني باسم: “مؤسسة صادق جلال العظم”، والتي سيجري إطلاقهما قريبًا جدًا، للمحافظة على إرث صادق جلال العظم الفكري والثقافي واستمراريته. مشيرَين إلى أنّ “هذه الجمعية ستقوم من خلال الموقع الإلكتروني بتنسيق النشاطات والفعاليات التي ستقام مستقبلًا لتكريم ودعم استمرار هذا الإرث”. وأنّ “من أهم أهداف هذه المؤسسة التواصل ونشر فكر صادق جلال العظم وكتاباته، وإيصالها إلى الأجيال القادمة من الشباب السوري والعربي، إضافة إلى المفكرين والمختصين”.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]