“اليد الثالثة” لمن يستخدمها في المناطق المحررة .. القبضات اللاسلكية ضرورة لا غنى عنها في المجالات العسكرية والمدنيّة


تأتي الوسائل التقنية المبتكرة لتحقيق غاية لدى المخترع أو حتى الصانع الذي يسعى لنشرها واستثمارها. لكن ظروفاً استثنائية تعيشها مناطق معينة تجعل هذه الوسائل تخرج عن استخدامها الأساسي لتصبح أداة فعالة في أكثر من مجال يمسّ حياة الناس.

وذلك حال السوريين في المناطق المحررة الذين تحولت القبضات اللاسلكية معهم من أداة رصد وإشارة إلى وسيلة اتصال مدنيّة.

 

“قطعة سوداء صغيرة مركونة هنا أوهناك، تنذر عبر صوتٍ عالٍ بشؤم قادم، فتدفع الناس للاحتماء خلال دقائق بدلاً من أن يصبحوا في عداد الشهداء”، هكذا يُعرّف سكان المناطق الخارجة عن سيطرة النظام “القبضة اللاسلكية” التي أضحت وسيلة تواصل محلية بعد أن حاول النظام حرمان تلك المناطق من كافة وسائل الاتصال لعزلها عن بعضها من جهة وعن العالم الخارجي من جهة أخرى.

 

مراحل التطور

ظهرت القبضات اللاسلكية في ريف إدلب قبل سنوات بشكلها المبسط ومن ثم تطورت لتصبح جزءاً من منظومات وشبكات رصد يقوم بتشغيلها أشخاص مختصون للاستفادة منها في عدة مجالات.

“أبو عرب” المسؤول عن مرصد مدينة سراقب بريف إدلب الشرقي قال لـ صدى الشام: “خرجنا للرصد منذ 4 سنوات، كنا بدايةً نحمل قبضات بسيطة ضعيفة الدقة ونصعَد لأعلى نقطة في منطقتنا لنتابع حركة الطيران الحربي والمروحي، وعندما أثبتت القبضة فعالية وجودها بين السكان توجهت أنظارنا لجلب المحطات المتطورة التي تغطي مساحة تبلغ عشرة أضعاف سابقتها في مجمل المناطق المحررة”.

 

 

ولفت “أبو عرب” إلى أن بعض المحطات المتطورة المزودة ببيانات حديثة استوردوها من خارج سوريا، فيما جاء بعضها الآخر كغنائم من قوات النظام عقب دحره من مناطق واسعة، وأضاف أنها “كانت الوسيلة المثلى بين أيادي المقاتلين على جبهات المعارك للتخطيط لها والتواصل فيما بينهم بترددات معينة تارة ومع المراصد تارة أخرى والتي ترسل لهم الإسعاف عند الحاجة، وتزودهم أيضاً بمكالمات جيش النظام وتكشف مساعيه في الاقتحام، والأماكن التي سيستهدفها الطيران من خلال التنصت على ترددات الطيارين ومعرفة وجهتهم، بعد المتابعة والرصد الطويلين لأية إشارة بينهم”.

وأشار “أبو عرب” إلى أن الأجهزة والمحطات اللاسلكية التي اغتنموها من مطار تفتناز العسكري التابع لمدينة تفتناز في ريف إدلب الجنوبي مطلع عام 2013 لم تساعدهم كثيراً “لأنهم حينها لم يكونوا يدركون كيفية التعامل معها، ولأن أكثرها قد حُرِق أو تحطم داخل الطيارات الحربية”.

 

 

حاجة مُلحّة واستعمالات متعددة

 جاء انتشار القبضات اللاسلكية على أوسع نطاق في المناطق المحررة من أهميتها لدى جميع الجهات العسكرية والمدنية ولوظائفها القتالية والاجتماعية ولكون استعمالها يصب في مصلحة الجميع بغض النظر عن أنها صممت في الأساس للعمل العسكري.

“أم محمد” البالغة من العمر 50 عاماً في ريف إدلب تقول: “إن وضعي الصحي لا يساعدني على النهوض بسرعة فأصبحت القبضة صديقتي منذ سنوات، وبمجرد سماعي أن الطائرات متجهة نحونا أحاول الاحتماء بأي شيء أو أنزل إلى قبو أرضي”.

غير أن عمل القبضات ليس حكراً على المنازل بل لها دور كبير في الأسواق والساحات العامة، فعندما تُدوّي صافرات الإنذار عقب توجيه من المراصد إلى مراكز الدفاع المدني لفض التجمعات يلجأ الناس للأزقة ومداخل الأبنية بينما تمرّ الطائرات عبر الأجواء وتعود الحركة طبيعية، وفق ما ذكر أحد أصحاب المحلات التجارية في سوق مدينة إدلب.

 

في السياق ذاته أوضح “أبو جابر” أحد عناصر الدفاع المدني في ريف إدلب الجنوبي لـ “صدى الشام” أن القبضة اللاسلكية تفيدهم في تحركاتهم بشكل أسرع، فيتم من خلالها عبر المراصد المتواجدة في المناطق تحديد الأماكن المقصوفة والذهاب إليها فوراً لنقل الجرحى وإجلاء المدنيين من تحت الأنقاض وإخماد الحرائق وتنظيف المكان مباشرة، غير أن لكل فريق دفاع مدني تردد خاص يسيّر عملهم، كحال أي فريق ناشط في المناطق المحررة.

وفي استخدام آخر لها باتت القبضات وسيلة اتصال تنقل شكاوي السكان إلى الجهات المعنية خاصة الخدمية منها (ماء، كهرباء، أسعار محروقات) ويستدعون من خلالها القوة التنفيذية بحال حدوث مشاجرات أوسرقات، كما تعمم المراصد عن طريقها أوقات توزيع السلل الغذائية أو تذيع قرارات عامة كإيقاف عمل المدارس واستئنافها فضلاً عن طلب المشافي من الأهالي الذهاب إليها للتبرع بالدم أو البحث عن المفقودين.

وفي الوقت الذي تكون فيه السماء خالية من الطيران تصبح القبضات أداة لاطمئنان الناس على بعضهم ومناقشة مواضيع محلية.

 

مصدر رزق

مع الوقت أضحت القبضات اللاسلكية بأنواعها وسيلة ضرورية تتوزع في كل زاوية من المناطق المحررة لذا كان لا بد من ظهور محلات تجارية تهتم ببيع شتى أنواع هذه القبضات.

حول هذا الموضوع التقت “صدى الشام” أحد أصحاب محلات بيع القبضات في مدينة إدلب، وتطرق إلى دوافع عمله في هذه المهنة مشيراً إلى أنه: “قبل الثورة كنت أمتلك محل قطع كهربائية، لكن الإقبال ضعُف على هذه القطع بسبب انقطاع الكهرباء ما دفعني لاستبدالها بالقبضات اللاسلكية التي لاقت رواجاً كبيراً رغم ارتفاع أسعار بعضها بحسب مصدر تصنيعها وجودتها ومدى التقاطها للموجات البعيدة، فمثلاً سعر القبضة بدون شاشة رقمية يصل  إلى 25 دولار كحد أقصى، بينما الرقمية من 50 إلى 100 دولار وما فوق، ناهيك عن قيامي بصيانتها إذا ما حدث عطل ما فيها”.

 

 

 

إيجابيات طغت على السلبيات

“سلاح ذو حدين” وصف أطلقه الكثير من السكان على القبضات اللاسلكية كونها على ارتباط وثيق بصافرات الإنذار عالية الصوت التي تسبب هلعاً وذعراً لدى النساء والأطفال بما أنهم يتوقعون أن يَلي هذا الصوت حدوث كارثة قد يكونون من بين ضحاياها.

“لين” البالغة من العمر 10 سنوات أصيبت بحالة نفسية جعلت التوتر يرافقها في كل مرة تسمع فيها صافرات الإنذار القريبة منها، تقول: “لمجرد سماعي القبضة تنادي المراكز (شغلوا الإنذار) تصيبني الرجفة والتعرق وأركض متعثرة بخطواتي إلى زوايا المنزل وأنا أصرخ بصوت عال بشكل غير إرادي لحين توقف الصوت”.

وهذا ما أكدته والدة “لين” إذ أوضحت أنها لا تحب ذاك الصوت الذي أدى لمرض ابنتها، خاصة بعد أن أضحى في كثير من الحالات غير مجدٍ بما أن هنالك طائرات تحلق على ارتفاع كبير ولا تراها المراصد، “بالإضافة للصواريخ الموجهة (أرض-أرض، سكود) وغيرها التي تأتي على غفلة منا ومن المراصد وتحصد أرواح العشرات من البشر”.

ومن بين الناس الذين استطلعت “صدى الشام” آراءهم اشتكى البعض من شيوع امتلاك القبضات من قبل غالبية شرائح المجتمع ما ترتب عليه “إخلال بالآداب العامة على اعتبار أن انتشارها داخل المنازل يؤدي لسماع النساء والأطفال لها عندما يتبادل بعض الشبان الشتائم والسباب مع آخرين من شبيحة النظام أو مواليه الذين يخترقون الترددات العامة، ونتيجة وضعها أيضاً بمتناول الأطفال الذين يشوشون أحياناً ويصدر عنهم كلمات سيئة”.

لكن عدداً كبيراً من الناس المُستطلعة آراؤهم أجمعوا على أهمية القبضات رغم كل شيء فمن غير الممكن كما يقولون نسيان إيجابيات القبضة اللاسلكية، ذلك أن معظم الرجال يعملون في الأسواق العامة، ومن الواجب تشغيل الإنذار كي يحتموا قدر الإمكان خصوصاً في ساعات الليل أثناء عودتهم لمنازلهم لأن تشغيله يدفع سائقي المَركبات لإطفاء أنوارهم والوقوف قليلاً لحين ذهاب الطائرة الحربية التي تستهدف مواضع الإنارة أينما وجدت، وهذا بدوره يفيد أرتال المقاتلين الذاهبين للمعارك في الليل بسياراتهم ووسائل مواصلاتهم القتالية أيضاً.

 

 

غاية إنسانية

جانب مضيء آخر يظهره استخدام القبضات في ظل عمل متواصل على مدار الساعة دون كلل أو ملل من قبل أشخاص سخّروا معظم وقتهم للرصد بهدف محاولة التقليل من الخسائر البشرية متمسكين بمقولة “السكان منا وفينا وواجبنا حمايتهم وفق ما نملك من وسائل”. وهؤلاء يعملون رغم المردود المالي المتواضع الذي يحصل عليه بعضهم من خلال تبرعات من منظمات أو فصائل عسكرية معنية بهم، وفق ما ذكر لنا “أبو عرب”. فمنذ أكثر من سنة ونصف لم يتقاضى أي مبلغ المالي هو وزميله في مرصد مدينة سراقب مثلهم مثل العديد من زملائهم.

مما تقدّم يتضح أن القبضة اللاسلكية لم تكن مجرد أداة عابرة في مسار الحرب السورية نظراً لفاعليتها في أكثر من مجال ما جعل وزير الاتصالات في الحكومة السورية المؤقتة “محمد ياسين نجار” يعتبر أنها “جزء من سيادة الدولة” وأنه في المستقبل لن يتم الاستغناء عنها وسيجري تطويرها بما يناسب الجميع لتكون وسيلة اتصال آمنة تخدم فئات محددة.

 

 



صدى الشام