‘عين الشرق: إبراهيم الجبين يحاكم التاريخ’

14 ديسمبر، 2016

ثائر الزعزوع

  • “عين الشرق” رواية الكاتب السوري إبراهيم الجبين -الصادرة حديثًا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر- نص يمتلك تلك الخصوصية في جلب الدهشة الباردة، أقصد ليست تلك الدهشة الحارة العنيفة، لكن تلك الباردة التي تنسل بين الجلد والعظم لتقيم هناك، وتؤثر باستغراق. هو نص دؤوب يحرص على إدخال قارئه في تفاصيله طوعًا، فهو لا يخبئ لنا مفاجآت، ولا يسرد لنا “حواديت” نتوقع نهاياتها، بل هو أكثر تعقيدًا من لعبة السرد نفسها، وعلى العلى الرغم من من اجتماع الآراء على أن “دمشق” المكان تمثل البطل في النص، لكني سأميل لمعارضة ذلك؛ لأقول: إن التاريخ هو البطل، فهو نص يحتفي بالتاريخ بطريقة مثيرة، التاريخ الشخصي للسارد الذي لا يخفي نفسه ولا يتنكر، فهو نفسه الذي نقرأ اسمه على غلاف الكتاب ونقرأ تفاصيل حياته بين السطور، والتاريخ العام الذي يلتقط منه السارد -بذكاء وخفة- تلك الحوادث التي تخدم مشروعه “التوثيقي” والذي سيشكل كشفًا مهمًا لسيرة التردي التي مر بها الواقع الثقافي –بخاصة- والاجتماعي، بأقل تركيزًا. وعلى عكس القراءات المتلاحقة التي حاولت أن تنساق وراء وهم أن “دمشق” المكان هي البطل الأوحد في الرواية، فإن النص الاصطفائي الذكي الذي اشتغل عليه الجبين، التقط بعين المراقب شخصيات وحوادث بعينها، لتشكل تلك اللوحة المنسجمة التي لا تتقيد بتسلسل زمني، ولا تكترث كثيرًا للحياة العادية للأشخاص، ولا حتى للأماكن.
  • فـ ” دمشق ليست الدمشقيين ولا المهاجرين الذين جاؤوا إليها في كل عصر ومن كل مكان، هي قائمة بذاتها وحدها، ولها روحها الآسرة التي تعبر الأزمنة والبشر” ص28. تحضر دمشق –إذن- حضورًا طاغيًا في النص، لكنها -أيضًا- تبدو مكسورة الجناح، غير قادرة على حماية نفسها، وتقبل طواعية أن تتغير، على الرغم من تأثيرها الجارف في شخوصها: ابن تيمية، مظفر النواب، عبد الرحمن الشهبندر، الأمير عبد القادر الجزائري، وسواهم من الأشخاص؛ شعراء وفنانين، بل حتى جواسيس، والذين حرص الجبين على أن يستدعيهم ويمنحهم طاقة البوح، كحوارياته الممتدة مع “سجين الرأي” الشيخ ابن تيمية، الذي أراد الكاتب تبرئة سيرته من كل ما لحق بها من اتهامات، وصلت إلى عدّه مسؤولًا أول عن عقيدة التكفير كاملة، وهي تهمة باطلة، كما سيتبن لنا من النص، فالرجل لم يدع إلى التكفير، بل إنه فضل التخلي عن واجباته الدينية في سبيل الدفاع عن “دمشق”. (لم يكن الوقت وقت رجل دين، كان وقت الرجال الثابتة؛ حتى إني قلت للناس لا تصوموا رمضان، وأنا لم أكن أصوم، وكنت أدور عليهم؛ آكل معهم من قصعاتهم وأشرب من أباريقهم) ص129
  • وبمقدار ما تبدو “عين الشرق” للوهلة الأولى، رواية تضم تلك المقومات المعتادة لأي عمل روائي، إلا أنها بالمقابل تتحرر من الشكل التقليدي، وتندفع لتبتكر طابعها الخاص، شخوصها الواقعية المعاصرة التي تمتزج بشخوصها التاريخية في حواريات وأحداث أماكنها المتبدلة، أزمنتها الهلامية، وكل ذلك يجعل من الصعب وضعها في قالب، والقول: “هذا عمل روائي جيد أو متميز”؛ إذ ينبغي التعامل مع مادتها بحذر، وربما على قارئها أن يتسلح “بموسوعة” معرفية تعينه عليها في كثير من تفاصيلها…
  • وعلى الرغم من إصرار الكاتب على التوصيف الطائفي والقومي للشخوص، إلا أنه لا يمكن القول إن الرواية تحمل نفسًا طائفيًا، فقد كانت أمينة في الوصف، إذ لا يمكن فهم الحالة السورية دون ذكر تلك التفاصيل التي تشكل -على مدى عقود- اللوحة الكاملة.
  • من بين الشخصيات التي حرص الجبين على استدعائها، وإن بطريقة لا تخلو من التهميش، هي شخصية الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، الذي، وعلى الرغم من الأثر الكارثي الذي تركه في المدينة وفي تاريخها، إلا أن الكاتب أراد أن يعاقبه، فسجنه في مقاطع يمكن تسميتها بالمغلقة، فلا أحد يحاوره أو يتحدث إليه سوى ممرضة حريصة على بقائه حيًا، على ما يبدو، يظهر ضعيفًا مستسلمًا، في غرفة في مستشفى ما، يحاول أن يستعيد قدرته على البطش، والتدمير، غير أنه عاجز، وعكس الآخرين الذين منحهم الجبين الحرية في الحركة، فإنه فضل أن يسجن الأسد الأب في روايته؛ وكأنه يثأر منه بسبب إساءته للمدينة التي يحب، وربما انتقامًا لجميع أولئك الذين اعتقلهم الأسد الأب في سجونه طوال سنوات حكمه. في حين فتح الباب لجميع شخوصه –تقريبًا- كي تغادر روايته إلى عوالمها، حتى السارد نفسه، فإنه أبقى حافظ الأسد سجينًا داخل الرواية، ربما “إلى الأبد”. (ما الذي يحدث في الخارج؟ أسأل ولا يجيبني أحد، حتى الممرضة التي تدخل وتخرج مرتجفة لا تقول شيئًا، قررت أن أكتب مذكراتي، لم أقرر بعد، فكثير من أحداثها لا أريد أن أرويه، ليس لأنه لا يعجبني بل لأني لم أكن فيه اللاعب الأساسي كانت تحركني الرياح وكنت طيارًا يتقن ترك ذاته للهبوب) ص104
  • على الضفة الأخرى -بعيدًا في الشرق- تبرز مدينة أخرى هي مدينة دير الزور، في تلك المدينة لا يتخلى الجبين عن ولعه بالاكتشاف والبحث، وعلى الرغم من أنه لا يستغرق فيها استغراقه الكلي في دمشق، فهو يحافظ عليها مدينة قابعة في حالة أسطورية، أهلوها حالمون (في دير الزور تشعر أنك في كون مختلف خارج سورية، والعالم العربي، وربما خارج العالم، عواء الكلاب ليلًا يتشاءم منه الأهالي، ويعدّونه نذيرًا؛ فكلما عوى كلب خرجت روح إلى السماء مغادرة جسد صاحبها، حينها سيبدأ طقس المعادة المليء باللطم والندب والأحزان، ومعه سيتدفق الشعر الذي تكاد نفوس الديريين تتوق إليه، شعر شديد القسوة لما فيه من تألم ووحدة). ص 95-96
  • هوية الرواية سورية بامتياز، ويستطيع القارئ -غير السوري- أن يفهم فصلًا ناقصًا من تاريخ سورية الجواني، جانب معتم ثقافيًا برز خلاله كثير من الوجوه والأسماء التي ملأت المشهد السوري سنوات طويلة، يحاول الجبين ترصد بداية تلك السيطرة المنظمة على الحياة الثقافية السورية من خلال معايشته عن قرب لتجمع كان يطلق على نفسه تسمية “حراس الأرض”، سيتحول -لاحقًا- إلى ما يشبه النواة الأولى لتلك الوجوه الصاعدة، والتي ستحل محل المبعدين أو المنفيين؛ نتيجة التضييق الأمني عليهم، مثل الكاتب صبحي حديدي، الشاعر نوري الجراح، الشاعر سليم بركات، وآخرين.
  • وضع الجبين لروايته عنوانًا ثانويًا هو “هايبرثيميسيا 21” وهو -كما يشخص الحالة في النص- مرض نادر، يجعل صاحبه غير قادر على النسيان، وهو يخبرنا في فاتحة روايته أن عشرين حالة من مرض هايبرثيميسيا -فقط- جرى اكتشافها في أنحاء العالم؛ حتى هذه اللحظة، ليفاجئنا في متن الرواية بأنه هو الحالة 21، وهو ما يفسر تلك الذاكرة الثرية التي احتفظت بكل تلك الحوادث، ولم تهمل التواريخ والتفاصيل الثانوية التي ركبت جميعها بنيان روايته، لتوصلنا إلى الحدث الأهم في التاريخ السوري المعاصر، وهو اندلاع الثورة في مارس 2011، وهو الواقع الحي الأكثر قيمة من كل قيمة أخرى، (ص 11) وعلى الرغم من أنه في الصفحة الأولى من الرواية، كان قد أبدى رغبته في أن يتمكن من فعل ما فعله الرسام السوري الراحل، لؤي كيالي، فيقوم بجمع لوحاته وإحراقها؛ ليبدأ من جديد، لكنه لم يفعل؛ لأن “كل شيء يرتبط يما حوله بقوة، مهما حاولت انتزاعه من سياقه، ومهما فكرت أن السياق ليس سياقًا أصلًا. ص11.
[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

14 ديسمبر، 2016