من يمسح الخراب عن ذاكرة الطفولة السورية


حافظ قرقوط

وصلت لـ (لجيرون)، من داخل أحياء حلب المحاصرة، عدة رسائل فيديو لأطفال يناشدون فيها العالم؛ كي يلتفت إلى أنّاتهم الموجعة، وأحلامهم التي فقدوها، وببراءة وبكلمات بسيطة يريدون إيصال الرسالة، ولم يدركوا -في عمرهم الندي- أن السياسة الخبيثة طحنت كل القيم التي -إلى الأمس القريب- كان من الممكن الحديث عنها بكثير من الأمل.

إن وجد أطفال سورية من يمسح الدمع عن خدودهم الطرية، فمن يمسح الخراب عن الذاكرة الغضّة التي لا يمكن تصور هول ما شاهدته وخزّنته، ليبرز السؤال الأهم، كيف لعواطف الطفولة الطرية والناعمة أن تتفهم طبيعة هذه الحرب اللعينة، التي حاصرتها من كل اتجاه، وكيف لعيون تتفتح لأجل البحث عن الحياة، وجدت نفسها تبحث عن أشلاء أهل وجيران وأحباب، أو مساحة قبر، عوضًا عن مساحة لعب ومرح، أن تعي أسباب هذا الثمن الذي تدفعه.

ليس عبثًا ما قاله مدير مكتب “اليونيسيف” في حلب، رادوسلاف رزيهاك، لبعض وكالات الإعلام -في الأيام القليلة الماضية- عما يحدث في حلب، عندما اختصره بتعبير: “لم أشهد في حياتي مثل هذا الوضع المأسوي الذي يعاني منه الأطفال في حلب”.

رزيهاك الذي عمل في المنظمة منذ نحو 15 عامًا، يريد أن يُفهم العالم أن ما يجري أكبر من استيعاب عقل بشري، وهذا يقودنا إلى ما ذكرته (اليونيسيف): “جميع أطفال مدينة حلب في شمالي سورية يعانون من الصدمة، بعد أن تحمّلوا أسوأ أعمال عنف”، وقد قدّر رزيهاك أن أكثر من 200 ألف طفل يحتاجون للدعم النفسي والاجتماعي في حلب، ولا يقل عن 100 ألف يحتاجون لمتخصصين في ذلك.

ولاحظ رزيهاك، وبناء على فحوصات، أن الأطفال القادمين من أحياء حلب المحاصرة، “يفتقرون إلى غريزة الدفاع عن النفس”، وهؤلاء الأطفال أعمارهم أقل من ست سنوات، أي أنهم ولدوا خلال هذه الحرب الطاحنة، التي يشنها النظام وشركاؤه على أحيائهم وبيوتهم، وكل ما يعرفونه هو “الحرب والقصف”، ولذلك؛ يجدون أنه من الطبيعي القصف ومن الطبيعي الجوع، كونها تمثل تفاصيل حياتهم اليومية، ويرى أنهم “سيعانون من هذه الصدمة لوقت طويل”، فالتكيّف مع تلك الحالات بات روتينيًا يوميًا، وهذا يُشير إلى أنهم قد “يتعرضون للخطر، كونه لم يجرِ تأهيلهم للاحتماء في أثناء حدوث القصف”.

الأسر السورية -عمومًا- باتت منكوبة، وتعاني من ارتدادات الحالة التي تحيط بحياتها، وتتضاعف معاناة الأسر الموجودة في المناطق المحاصرة، وهي تبحث عن أي غذاء أو ماء أو دواء، وعلى هذا؛ يمكن قياس ما يعانيه الأب والأم.

ما يعانيه من بقي حيًا بجوار أطفاله، هو ذاته ما يعانيه الطفل من هول مشاهد القتل والدمار، واستمرار الفظاعات بلا انقطاع، وتراكمها من حيث الأثر؛ ليصبح مشهدًا مألوفًا لهم، وبالتالي؛ لا توجد بيد الأهل إمكانات تساعدهم في الاهتمام بالأطفال، على المستويات المعيشة والتعليمية والطبية، أو أي نوع من النشاط الذي يناسب عمر وحاجة الطفولة.

ما يجري في سورية كان قد وصفه جون كيري، وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية، في أثناء وجوده في بروكسل، بـ “أسوأ كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية”؛ فإن كانت الدولة العظمى والأهم والأكثر تأثيرًا ونفوذًا في العالم، تُدرك ذلك وتقوله علنًا، فماذا سيفعل الأطفال أمام هذه الكارثة التي يعيشونها، وهذا التوحش من قوات النظام والقوى الداعمة له، وأساسها روسيا وإيران والمرتزقة الذين تمولهم.

وكانت (اليونيسيف) أصدرت تقريرًا، في آذار/ مارس الماضي، تؤكد فيه أن نحو 80 بالمئة من أطفال سورية، تأثروا بسبب الحرب، إن كان أولئك الذين بقوا في الداخل، أو الذين باتوا لاجئين في دول الجوار، مؤكدة أن نحو مليوني طفل لاجئ هم بحاجة إلى دعم نفسي.

مع دمار المنشآت التعليمية في مدن ومناطق عديدة؛ بسبب القصف، أو إغلاق أخرى بسبب الخوف، أو انتشار بعض القوى العسكرية المانعة للتعليم، كتنظيم الدولة (داعش) في المناطق التي يسيطر عليها، توجد -أيضًا- مشكلة غياب التخصص التعليمي عن كثير من المناطق؛ بسبب انعكاسات الحرب نفسها على السكان، وتشتتهم أو تهديد حياتهم وحياة أسرهم.

وذكر تقرير (اليونيسيف)، الصادر في آذار/ مارس الماضي، مع الذكرى السنوية للثورة السورية، أن حولي “3 ملايين و700 ألف طفل سوري قد ولدو منذ بدء الصراع، قبل 5 سنوات”، منهم نحو “306 آلاف طفل ولدوا لاجئين”.

في سياق آخر تشير “قاعدة بيانات الثورة السورية”، إلى أن حوالي 17746 طفلًا قُتلوا منذ آذار/ مارس 2011، وحتى نيسان/ أبريل الماضي، كما ذكرت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” -بدورها- أن الأطفال الذين قُتلوا منذ آذار/ مارس 2011، حتى تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بلغ نحو 23863 طفلًا.

ضمن الحصار الخانق على أحياء حلب الشرقية، ومع صوت الطفولة الذي وصل من خلال الوسائل التي وفرتها ثورة الاتصالات، لا بد لهذا العالم من الإصغاء إلى تلك النداءات المنطلقة من قلب الألم، لأطفال لم يُشاهدوا غير الوجه الوحشي للحضارة، لنقول لهم إن العالم أفضل وأكثر أخلاقًا ورقيًا مما تتوقعون.




المصدر