“مائير كاهانا” و”دوف ليئور” في حلب


نزار السهلي

علّنا أن نُقارن، ما يقوم به النظام السوري، مع كل جولة تسفيح وقتل وتهجير واعتقال وتدمير، بجرائم الاحتلال الإسرائيلي، وبخطط المشروع الصهيوني الذي تأسس منذ قرن عبر جرائمه، نكبة الفلسطينيين المستمرة.

ولمَ تلك المقارنة؟ سألني عربي، “إنها لا تجوز في المشهد السوري”، قلت: لا يجوز سوى أن تكون تلك المقارنة بمفارقتها المُهذبة والمؤلمة لنكبة السوريين المتواصلة بجرائم يسجّلها السوريون كل لحظة، ويجتهد بتأريخها بعضهم الآخر ليضيء جوانب من الفكر الاقتلاعي والاستيطاني لطمس الهوية.

تصورات وخيارات وسيناريوهات عديدة تحدث عنها عسكريون وسياسيون لمستقبل الصراع ومآل الثورة السورية، متناسين، عن قصد أو عن غيره، أن كل المدن السورية كانت قبل آذار 2011 تقع تحت سيطرة النظام، والسؤال عن الفائدة من السيطرة الجغرافية التي كان يستهزئ منها النظام من كل بقعة كان يخسرها.

الحديث هنا لا يتعلق بنقاش المعركة العسكرية ولا بهزائم وانتصارات، بل بجرائم تقع في كل لحظة، بات النظام لا يتنفس إلا على وقعها، وعن تأثير تلك الجرائم والممارسات العدوانية في ميزان العدو الاسرائيلي.

المشهد السوري مختلف وصادم، فإذا كان جيلنا شهد حروب العدو المختلفة منذ الاجتياح الأول للبنان عام 1978، إلى غزو بيروت، ومن ثم سلسلة الحروب العدوانية التي شنّها على الفلسطينيين والممارسات العدائية المتواصلة، ومع ما سمعنا وقرأنا في كتب التاريخ، كلها تتقزّم وتُضعف قوتها الأخلاقية والقانونية التي أكسبت الضحايا قوة التضامن والمناصرة والدعم لمواجهة العدو وسياساته.

وحده النظام في دمشق يُقدم أنجع السُبل وصكوك البراءة للمحتل بدعم “أحقية” سياساته العدوانية؛ حتى لو كانت متقزمة أمام جرائم النظام السوري.

يرفع الفلسطينيون اليوم هاماتهم لمقاومة مخطط “برافر” لتهويد النقب، ويمضي الأسد في تهجير أرياف المدن الثائرة، ويمسك الفلسطينيون بحق العودة إلى أرضهم والنظام يسحق مخيماتهم ويهجّر اللاجئين من جديد، ويقصف اللاجئين من شعبه بالبراميل المتفجرة.

يقاوم الأسرى الفلسطينيون بأمعائهم الخاوية صلف الجلّاد، وجلّاد الشام يُزهق أرواح عشرات الآلاف في المعتقلات، يؤكد الفلسطينيون في زيتهم وزعترهم وميرميتهم أن معركة طمس الهوية لأصحاب الأرض من مستوطنين مستوردين من أصقاعها تفشل، ويستورد نظام الأسد مستوطنيه من الإيرانيين وغيرهم؛ لإحداث أكبر عملية تطهير طائفي تشهدها مدن وأرياف سورية.

تصدّع الأكاذيب

هذيان أن تجري تلك المقارنات، نعم. لكنني أرى تصدّع تلك الأكاذيب وانهيار الشعارات منذ خمسة أعوام ونيّف، أليس العدو هو العدو؟ بلى، ولكن هناك متبرعون لخدمة هذا العدو، مقابل أن تتسيّد “الشيزوفرينيا” السلطوية لآل الأسد.

عليك أن تدقق بكل هذا الرغاء. من الذي يقدم للعدو الطرق الالتفافية للتهرب من جرائمه، من المستفيد من انسحاب موسكو من المحكمة الجنائية الدولية، الأسد والاحتلال، ومن الذي يفرك يديه فرحًا بسيل الجرائم المتواصلة بحق السوريين؟

أكيد إسرائيل التي ترى في تسويق “أخلاقياتها” باب النجاة من مشهد المدن المدمرة وملايين المهجرين، فتصبح الإعدامات الميدانية للفلسطينيين بتهم حمل السكاكين “مشروعه” أمام تنفيذ جرائم يومية، ويغدو حصار غزة سياحيًا بخمس نجوم أمام موت النساء والأطفال جوعًا من جراء الحصار والقصف، ويصبح الأسير في زنازين العدو، برقمه واسمه وزياراته ومرافعاته أمام “قضاء الاحتلال”، مع حملات التضامن معه، يصبح نزيل “منتجع سياحي”، من منطق العدو المسرور لإعدام الآلاف في مسالخ الأسد البشرية، مع الاختطاف والتغييب.

معادلة الاستيطان لها في المقلب الآخر ما يخفف عنها، ومعادلة استيراد قتلة مأجورين لصالح المستوطنين لها في الجهة الأخرى ما يتفوق عليها، يصارع الفلسطينيون من فوق منبر “الكنيست” لمقاومة قانون منع الأذان في المساجد، كيف لا، والأسد دمّر عشرات الكنائس، ودمر مئات المساجد، وقتل آلافًا من زوارها.

كنا نشتكي من انحياز “الإمبريالية” الأميركية لتغطية جرائم إسرائيل، فاكتشفنا أن موسكو لا تقل إمبريالية في دعم فاشية الأسد ضد شعبه، وسقوط شعارات من باب “أنه لولا الدعم الأميركي لإسرائيل”، واستخدام حق النقض الفيتو في المحافل الدولية، ليصبح شعار “لولا الدعم والفيتو الروسي والإيراني والعراقي والإماراتي، ودعم الميليشيات الطائفية والمذهبية، وضخ سيرومات (البترو تومان)؛ لما صمدت هذه الفاشية.

نهلنا من أدبيات التاريخ عن دور اللوبي الصهيوني في تأمين ودعم الفكر الصهيوني لإرساء مشروعه في فلسطين، لنُصدم ونُخذل في لوبيات “قومجية” لا تقل بشاعة عن اللوبي الصهيوني، كأن وسائل “الدفاع” واحدة للطاغية وللمحتل، بتشابك الأدوات وتفوق الأول بالجريمة والثاني بتغطيتها.

إذا أخذنا ظاهرة الفاشي، رحبعام زئيفي، ومئير كاهانا، في المجتمع الصهيوني، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وظاهرة ديف ليئور، ويهودا غلينك حاليًا، نجد أن ظاهرة أكرم الكعبي، وقاسم سليماني، وحسن نصر الله، لا تبتعد في الجوهر عن روح الفعل المُنظّر للإبادة والتطهير العرقي للسكان الأصليين، فلم يعد يذكرني بتلك الفاشية سوى ما جرى في المدن السورية، وما يحدث في حلب؛ حتى ظننت أن مائير كاهانا ورحبعام زئيفي يقودان عملية تطهير حلب من تاريخها وسكانها.

لن يعجب كثيرون هذا التماثل. الآثار العميقة والصادمة التي تركتها جرائم النظام بحق الشعب السوري كثيرة، لكن أبرز ما يمكن تسجيله خلال السنوات الخمس الماضية، هو اتحاد اللوبي الصهيوني مع اللوبي “القومجي”، واستعارة أساليبه، والإفادة من قوة الأكاذيب وتلفيقها.

لتصبح قضية الشعب السوري أولوية أخلاقية في المقام الأول، تجب إعادة المكانة للتناقض الأساسي الذي رسمته تلك الأيديولوجيات الراسبة، أولها إزاحة الاستبداد والطغيان، بوصفه مدخلًا للتحرر في كل القضايا. لأجل كل ذلك؛ تبقى ثورة الشعب السوري ضد الطغيان محطّ أنظار اللوبي المتحد، والفرح بفرعه “القومجي” لإجهاضها.




المصدر