الأغنية العربية في حاضرها … تُولد ميتة وبلا هوية

16 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
10 minutes

تشهد الأغنية العربية انحداراً كبيراً في مستواها الفني منذ أواخر تسعينات القرن العشرين. وازداد هذا الانحدار وبات فاضحاً في السنوات العشر الأخيرة، مع فتح أبواب عالم الغناء لمن ليست له علاقة به، من عارضات وعارضي أزياء وراقصات وملكات جمال ورجال بعضلات مفتولة، ومتعدّين على التلحين وكتابة الأغاني مع غياب الرقابة.

وساهم كتاب وملحنون في تأسيس واقع موسيقي جديد بلا هوية، مع تقديم كلمات نابية وغير أخلاقية لا تواكب الواقع الذي نعيشه أو تُعبّر عنه، وألحان مركبة أو مسروقة من اليونان أو تركيا. وساهمت برامج الصوت المتطورة في تعديل الأصوات الشنيعة وتهذيبها. كما أن موجة نسخ الأغاني الغربية وتقليدها زادت الطين بلة، فظهرت أغانٍ بإيقاعات غربية إنما في شكل مزرٍ، علماً أن كبار الموسيقيين العرب، مطلع القرن العشرين استخدموا بعض الألحان والإيقاعات الغربية المشهورة عالمياً كـ «الفالس» و «التانغو» و «الفوكس تروت» و «الرومبا» وإيقاعات أميركا اللاتينية، مع المحافظة على الهوية العربية، كما فعل الموسيقار محمد عبدالوهاب في أغنية «محلاها عيشة الفلاح» إذ استعمل مطلع سيمفونية بيتهوفن السادسة. ويعتبر الأخوان رحباني من أشهر الموسيقيين العرب الذين استخدموا بعض الألحان الغربية في أعمالهم الغنائية، فمثلاً استعاروا جزءاً من سيمفونية موتسارت في تلحين أغنية «يا أنا يا أنا» وغيرها.

ولكن تبقى هناك بعض المغامرات الفنية المميزة واللافتة، من فرق مستقلة ومغنين في لبنان ومصر وتونس. والملاحظ أن هذه الفرق تواكب قضايا شعبها وتغنيها وتنتقد السلطة بكل حرية، وكان لها دور بارز في الثورتين اللتين اندلعتا في تونس ومصر، وكانت لغتها احتجاجية راقية، إنما لاذعة في الوقت ذاته.

ويقول الناقد الفني المصري محمد دياب إن الأغنية العربية والمصرية تحديداً تعاني هبوطاً في مستواها، على صعيدي اللحن والصوت منذ أفول نجم جيل الملحنين والشعراء والمطربين الذين برزوا في النصف الثاني من القرن العشرين أمثال كمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي وصلاح جاهين وعبد الرحيم منصور وعبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد وشادية ووردة الجزائرية، وإن بقي النص الشعري الغنائي يتطور في شكل محدود كما في تجربة علي الحجار ومحمد منير، وأغاني مقدمات مسلسلات تلفزيونية كتبها الشاعر سيد حجاب.

 

غياب المدرسة الكلاسيكية

ويرى دياب أن هبوط مستوى الغناء المصري – العربي مجازاً، يعود إلى الابتعاد تدريجاً عن تجويد القرآن والإنشاد الديني بحسب المدرسة المصرية الكلاسيكية، والابتعاد بالتالي عن مدرسة الشيوخ الكبار الذين خرجت من عباءتهم النهضة التي شهدها الغناء المصري والعربي منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وحتى الربع الأخير من القرن العشرين.

ويقول: «كان آخر جيل من الموسيقيين الكبار الذين قامت على أكتافهم نهضة الغناء المصري في القرن العشرين، هو الجيل الذي ظهر نهاية العقد الثاني من القرن العشرين كسيد درويش ومحمد القصبجي وزكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وأم كلثوم، وهؤلاء هم من شكلوا شخصية الغناء العربي وهويته في القرن العشرين، وكلهم خرجوا من مدرسة تجويد القرآن والإنشاد الديني».

ويوضح الناقد المصري: «هبط مستوى الغناء العربي منذ ظهور أجيال لم تنتم إلى هذا التراث الديني الفني الموسيقي العظيم، وتحديداً الجيل الذي لمع بعد ثورة يوليو 1952 ككمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي ومن زاملهم، فقد تأثر هذا الجيل بمن ذكرناهم من دون أن ينتموا في شكل مباشر إلى مدرسة تجويد القرآن والإنشاد الديني».

ولكن هل يُعتبر اللحن أساس العمل الناجح؟ يجيب دياب: «اللحن فعلاً هو أساس نجاح أي أغنية وهذا أيضاً رأي الموسيقار محمد عبدالوهاب. قدرة الملحن على إنجاز عدد كبير من الألحان في وقت قصير، لا تعني بالضرورة أن المنتج الفني سيئ أو ضعيف كما لا تعني العكس، فالأمر نسبي ويعتمد على موهبة الملحن وقدرته على العطاء».

وعن الأغنيات التي ترد فيها كلمات نابية أو لها علاقة بالضرب أو القتل أو الذبح، يوضح: «يجب أن نفرق هنا ما بين المونولوجات الغنائية الفكاهية الانتقادية التي كان نجومها في الخمسينات إسماعيل ياسين ومحمود شكوكو وثريا حلمي وآخرين وما بين الأغنية بمفهومها الواسع الذي يضم قوالب أخرى كالدور والموشح والموال والمونولوج والطقطوقة، وكلها قوالب اختفت فيما بقي القالب الأخير هو السائد منذ عقود، الأغاني التي تتضمن كلمات نابية تندرج تحت قالب المونولوج الفكاهي الانتقادي ويقال لمن يقدمها مونولوجست تمييزاً بينه وبين المطرب الذي يقدم الطرب. اليوم لم يعد هناك طرب ولا مطربون، بل هناك مغنون من الغناء ومؤدون من الأداء لا أكثر».

ويرى دياب أن مصر شهدت في السنوات الخمس الماضية طفرة كبيرة في الأغنية السياسية الانتقادية من محترفين وهواة تفاعلوا مع الأحداث في شكل ديناميكي مذهل، منذ ثورة يناير مروراً بكل ما مرت به البلاد من أحداث، إذ قُدمت أغانٍ تنتقد السلطة في شكل واضح ومباشر بل تشتمها في أحيان كثيرة بألفاظ صريحة وجارحة، بعدما فقدت الرقابة في الإذاعة والتلفزيون الرسميين سطوتها بظهور وسائط جديدة.

 

مشاعر كاذبة

ويرى الناقد الفني اللبناني محمد حجازي، أن الأغنية العربية تمر في مرحلة لا تحسد عليها. ويقول: «الأغنية في وقتنا تلد ميتة، لأن العناصر المكوّنة لها غير متوافرة بالشكل المطلوب، والمشكلة أن الرأي النقدي المعارض، لا يستطيع وقف أغنية أو إسقاطها.

ويوضح حجازي أن المشاعر الكاذبة التي يصوغها شعراء الأغنية هي السبب الأول لهبوط الأغنية العربية، أما الأغنية اللبنانية فلها نكهات متعددة، مع خصوصية بارزة مفادها أن الشكل يأكل المضمون، وبالتالي ما من أحد يسأل عن صوت هيفاء وهبي أو مايا دياب، أو غيرهما من الحسناوات، إذ تعرفان كيف تختاران أغنيات تلائم حنجرتيهما.

ويضيف: «أما من يمكن الاستماع إليهم فقلة، أبرزهم ملحم زين، وائل كفوري، عاصي الحلاني، صابر الرباعي، والتونسي لطفي بوشناق، ومن المطربات لا نقاش بأن جاهدة وهبه وسمية بعلبكي وأميمة الخليل في خانة مستقلة، وهن الأفضل، أما الشهرة التي تعكس الطلب على أسماء دون غيرها فهذه لها بحث آخر». ويشير إلى أن الجميع يتحملون المسؤولية في هبوط مستوى الأغنية، «وليس مقبولاً تحييد الجمهور، لأن مجرد رفض الناس لمغن سيئ سيبعده عن هذا المجال سريعاً، وبذلك يتعلم غيره من أصحاب المواهب السطحية عدم التطاول على منبر الغناء».

يبدو حجازي مقتنعاً بأن الكلمة هي أساس العمل الناجح، «لكننا في عصر النغم» كما يقول. ويضيف: «لست ضد العمل المكثف للملحن، فربما كان معطاء ومتدفقاً وعلينا محاسبته عن كل لحن على حدة، أما مسألة اللحن الواحد الذي يحتاج إلى سنة كاملة فكان له عصره وظروفه ولم يعد مقبولاً اليوم مع وجود الإمكانات التقنية المتقدمة لخدمة المبدع النغمي. لكن من ينشرون الألحان كالفطر مسؤولون عن نسبة عالية من الألحان المتشابهة التي حوّلت مناخ أغنية اليوم عموماً إلى كابوس. فلا جديد ينتظرنا في الجديد، لذا تبدو الآمال هوائية غالباً ولا نصيب لنا منها، والمتعارف عليه أن الملحن يأخذ قصائد من عدد من الشعراء ويباشر التلحين ليعرض الأغاني جاهزة للتسجيل، هذه مهمة الملحن وهي محورية».

وعن رأيه في الأغنيات التي ترد فيها كلمات نابية، أو لها علاقة بالضرب أو القتل أو الذبح، يقول: «رحم الله أيام الإذاعة اللبنانية، حين كانت تُخضع كل أصوات المغنين لامتحان قبول أمام لجنة تستمع وتعطي رأيها بـ نعم أو لا، وهي لم تظلم أحداً في يوم من الأيام، بل استطاعت أن تُهدّئ المناخ السائد فتمنح الموافقة للمواهب المتقدمة والتي تستأهل المباركة. لكن اليوم لا حسيب ولا رقيب، ما يوجب تحركاً فورياً للنقابات لملء فراغ غياب الرقابة التي تستطيع منع الفلتان من التحول إلى فوضى ثابتة».

ويضيف: «ثمة فلتان في الأصوات المنكَرة والقبيحة، أُضيف إليها منذ سنوات عامل لا يبشّر بالخير أبداً، إذ باتت الأغنيات نوعاً من الردح بكلمات سوقية أقل ما توصف به أنها قليلة الأدب، بغية لفت الانتباه فقط».

ولكن لماذا لا تعبّر الأغاني عن الاضطرابات التي تعيشها البلدان العربية والظروف الحياتية الصعبة؟ يجيب حجازي: «هناك تاريخ من العلاقة الإشكالية بين التطورات الميدانية في العالم العربي، وحال الفن وخطابه، وهذا حاصل منذ ما بعد الناصرية وما استطاعته من إثارة حمية الشعراء والملحنين والمطربين للتعبير عن النبض الشعبي الذي واكب الرئيس جمال عبدالناصر الذي كان محبوباً من الشعب العربي. اليوم لا يغني أحد لأحد، فالأوطان عند شعوبنا هي الحكام، لذا لن نسمع أغنيات مطلبية أو احتجاجية في المدى المنظور».

يذكر أن فورة «برامج المواهب» التي اجتاحت شاشات عربية بيّنت وجود عدد كبير من الخامات الصوتية الممتازة، لكن شركات الإنتاج التي تراجع عددها بسبب ثورة مواقع التواصل الاجتماعي، تبحث عن الشكل لا المضمون.

[sociallocker] صدى الشام
[/sociallocker]