السياسة التعليمية في سورية
16 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
جبر الشوفي
أكثر من نصف قرن ومازال قطاع التربية والتعليم في سورية، يعاني من إلحاقه بالمنظومة الأيديولوجية للحزب الحاكم، لأن هذه الأيديولوجية بشعاراتها القومية في المقاومة والتحرير والوحدة، توفر غطاء للشرعية الثورية الخارجة على كل قانون ودستور. ولأنّ المدرسة توفر المجال الملائم للتأثير في أفكار ومفاهيم الأجيال المتلاحقة، لإطلاق الجملة الثورية وتركها معلقة في الفراغ، من دون أن تلبي حاجة عمر المراهقة وما يليه من حاجة نفسية، تنطوي على زخم بطولي وتطلعات رومانسية للبناء عليها واستثمارها، في ربط حلم تحقيقها -بحدها الأعلى- في أذهان الطلبة، بالسلطات القائمة وبشخصية القائد الفرد تحديدًا، باعتباره يجسد -بما يحمله من مؤهلات استثنائية في الذكاء والحنكة والبطولة والإخلاص- أقصى طموحات الأمة، في المقاومة والصمود وتحقيق النصر واسترجاع الأراضي المغتصبة والوحدة.
بتوجهات سياسية أيديولوجية كهذه، استمرت المناهج السورية في ركودها وثباتها تحت منظار المؤسسة المهيمنة وفي مستوى خط نظرها، وعندما كانت المؤسسة التعليمية التابعة، تحتاج إلى إدخال بعض التعديلات الضرورية على المناهج، كانت تسند هذه المهمة إلى حزبيين متحفظين ومنخرطين في تلك السياسة المتبعة في وازرة التربية، وبعض الموجهين الاختصاصيين الأوائل لهذه المواد المطلوب تعديلها، بحيث لا يتجاوز أي تعديل التغييرات الشكلية والجزئية، هذا إذا لم ترتبط عملية التعديل بإنزال نصوص ذات مغزى سياسي، تروّج بزخم أكبر للمنظومة الفكرية ذاتها ولرموزها التاريخيين، وبما يتكامل مع أساليب الترويج المتبعة، ابتداء بترديد الشعار الصباحي ومرورًا بكل القبعات شبه العسكرية لطلائع البعث وشبيبة الثورة واتحاد الطلبة، وكلها تضفي على الجيل طابعًا عسكريًا منضبطًا ومدروسًا، يتطلب الانسجام والتناغم مع عسكرة البلاد والمؤسسات وربطها بالرأس الأكبر من جهة، وبمنظومة الترويج لقادة تاريخيين يمثلون العزة القومية، بحيث تبدو هذه المنظومة -من التفكير الجديد- امتدادًا طبيعيًا واستمرارًا للتاريخ العربي الإسلامي المجيد.
وتبعًا لهذا، ومع التركيز على إبراز كاريزما القائد، وربط نعمة وجوده بتحقيق الأهداف والشعارات الكبرى، فقدت العملية التربوية ( التعليمية) حيادها المهني وأخضعت للسياسية، فتقلّص مناخ الحرية الصحي والمناسب لإطلاق فعالية المتعلم الفرد، وبناء شخصيته المستقلة والواثقة والمؤهلة للتعاون والتآلف مع الآخرين، في كل ما يعود بالفائدة على المجتمع، وجرت تنمية أجيال وتربيتها على الولاء مقابل توفير فرصة للعمل، في ظلّ البطالة والتنافس الشديد على حيازتها، مما شجع روح التنافس غير الشريف وأضعف روح التآزر والتعاضد بين الأفراد كزملاء عمل وكمواطنين تشاركيين.
على حين كان يفترض بعمليات التعديل والتحديث في العملية التربوية، أن تتناول السياسات التربوية ذاتها، لتحريرها من عوائقها، وأهم هذه العوائق تسييس التعليم وتسخيره لخدمة أيديولوجيا السلطة الحاكمة، والكفّ عن تفصيله على مقاسات أمنية تشكل سقفًا نهائيًا للتطلعات الوطنية، عبر تكريس مقولة ( حزب العبث قائد الدولة والمجتمع) وما يتبعه في مجال أهداف التربية (تربية الجيل على الإيمان بأهداف حزب البعث العربي الاشتراكي والولاء لقائده) وما شابهها، تلك المقولات التي تتطلب الإلغاء والكفّ عن عملية إعداد الكوادر الحزبية والأمنية كبديل عن الكادر المهني، ليتولى الأشراف والتنفيذ ولينصب الجميع على الأهداف التي هي محط توافق وطني، وفيها مصلحة المجتمع والأمة وفقًا لسياسة وطنية عامة، تنطلق من ربط التعليم بمتطلبات مشاريع التنمية الوطنية وخططها، ومع المجتمع وسوق العمل، لا تركها لعشوائية متخبطة انعكست سلبًا ليس على مستوى التعليم فقط، بل على مسألة الإيمان بالحرية واستقلال الشخصية وتنمية قدراتها في كل مجال، حيث يكمن في هذا جوهر وجود الإنسان الفرد وكرامته وصحته النفسية والبدينة. ولكن السياسة التربوية التي سادت في مدارسنا، لم تقف عند حدود ثبات المنهج وترويضه، ليخدم شعارات وطنية وقومية عائمة، والولاء لشخص يختزل به النظام والبلاد كلها وتربط كل عزتها وطموحاتها به، بل تجاوزها إلى فكرة تأليه الفرد وخذلان المجتمع، الذي بات ينظر بعجز وقصور أمام المثل المتأله المحاط بهالة من العظمة والقدرات الخارقة، فانقلبت الموازين، وبدلًا من حاجة رئيس البلاد إلى شرعية يمنحها له المجتمع، صار المجتمع السوري بحاجة ليشحذ الاعتراف بشرعيته من الرأس المدبر والحاكم.
ليس من حقّ السلطات الحاكمة في أي بلد المقايضة بين ما تقدمه من تسهيلات واستثمار إضافي في هذا القطاع الأهم والأخطر، وبين حيادية العملية التربوية واستقلالها عن سياسة السلطة، وذلك لأنّ خدمة التعليم أو قطاع (التربية) -كما يدعى عندنا- واجب وطني مستحق، وهو من أول واجبات السلطة ومهماتهما، في توفير الأوضاع الصحية والمناخ المساعد لزيادة حجم الاستثمار فيه، وذلك لأنه، وإن لم يكن قطاعًا إنتاجًا مباشرًا، لكنه يعمل كمصدر لإمداد الإنتاج وتعويضه وتحديثه، ويرتبط باستقلاليته وتقدمه وحجم الاستثمار فيه، فخر الدول المتقدمة وتنافسها.
لقد أقرّ البرلمان السوري منذ بداية عهد الاستقلال مجانية التعليم الأساسي، وظلت العبرة في مدى تطبيقه وأسلوب هذا التنفيذ، وإلى أيّ حد جري تعويمه وتفريغه من مضمونه الديمقراطي؛ إذ ليس أوضح من هذا التفريغ، تلك المقايضة المرذولة مع المؤسسة الدينية بإفساح المجال أمامها لتمرر نمطًا تقليديًا للوعي الغيبي أو لتتقاسم المغانم مع السلطة السياسية، وبما خوّل هذه السلطة بالانتقال التدريجي لزرع مناهج التربية الدينية بنصوص من أقوال رئيس البلاد، وحشرها مع المقدسات؛ لإضفاء القداسة والتعظيم والاستثنائية عليها وعلى صاحبها.
وحين نسأل اليوم أنفسنا: ماذا أخذنا من العلم والمعرفة والمهارات من مدارسنا وجامعاتنا، وماذا أخذت الأجيال اللاحقة، قياسًا على ما حققته الدول المتقدمة تعليميًا، وإلى أي مدى لبت العملية التعليمية أهداف التربية المتضمنة، تهيئة الأجيل وتزويدها بالمعرفة والمهارات العلمية والمهنية، لتكون رافدًا مباشرًا يصبّ في سوق العمل ويلبي حاجات التنمية في اختصاصات شتى، وكي لا يبقى الإنتاج الوطني عرضة للفوضى والعشوائية وتقديم المحسوبيات على الكفاءات، بوصف هذه الحالة لا تنفصل عن التخلف، بل هي إحدى معوقات النهضة، وضعف الإنتاج الوطني.
إنّ إشاعة مناخ الحرية والديمقراطية في التعليم ليس انتماء أيديولوجيًا سياسيًا، بل هو مناخ ثقافي إنساني لنمو الشخصية وتفاعلها الإيجابي والتزامها بالمشتركات الوطنية، حيث لا سيادة للفرد على الوطن إلا في مجتمع العبيد.
[sociallocker] [/sociallocker]