بين حلب وصادق جلال العظم ومكر التاريخ


جمال الشوفي

ليس لأن صادق جلال العظم فيلسوف عصره الأوحد، ولا “الأفذّ”، بحسب نمذجة وتصنيف الذهنية العربية الذاهبة -بعمومها- إلى فكرة الأوحد الذي لا يشق له غبار كعنترة، وليس لأن العظم المُدرّس الجامعي ذو التاريخ المعرفي الكبير، والعظم في نقد الفكر الديني وذهنية التحريم، وما بعد ذهنية التحريم، والحب والحب العذري وغيره كثير من الأبحاث والمنشورات والكتب، والعظم الأسبوع المعرفي للفلسفة، ناقل فكر التنوير والحداثة، ولا لأن الرجل قد جرّمه النظام كونه معارضًا يحمل فكرًا، إنما لأن احتضاره الأخير تواكب مع صدفة قليلة الحدوث، حين يمكر التاريخ، مع احتضار مدينة كحلب. حلب المدينة الصناعية الأكبر في سورية، ومفصل من مفاصل ثورتها الكبرى، التي وصفها الناشطون يومًا بالمتقاعسة مدنيًا عن حراك أخواتها المحافظات، إلى أن تصدّرت المشهد السوري وباتت مكسر العصا بين حملة لواء ثورتها، أيًا كانت صفتهم، وبين غطرسة الروس في إثبات إجرامهم بأن لا مدينة تستعصي عليهم كما غروزني يومًا.

صادق جلال العظم وحلب المدينة

صادق جلال العظم وحلب قصتان متشابهتان في المعنى والمكنون، فالعظم مع نخبة من مثقفي هذا التيار، كالمرحومين ياسين الحافظ والياس مرقص، وعدد غير قليل باق منهم إلى اليوم، لم يرغب بهم “المتمركسون” ولا “القومجيون” ولا “المتأسلمون” لنقده ودفاعه عن العقلانية! عانوا مختلف صنوف الاغتراب، اغتراب المثقف عن محيطه، اغتراب السياسي وتخميد مفاعيله، مرّة عبر سلطة متغولة تفني الفكر قبل البشر، ومرّة عبر جماعة المتأسلمون الجدد منهم والقدامى في نقده للفكر الديني وأشكال تحريمه وتحليله، ومرة عبر نفعية “علمالوجية” (ادعاء العلمانية) يمارسها سياسيو المرحلة بانتمائهم الخليط، سواء بين ممتهني السياسة كقوالب أيديولوجية جاهزة لا تحتمل النقد والتفنيد في ماركسوية أو قومجية ضحلة، لا تستوي منظومتها إلا بالشعارات، أو بين مصالح البعض السياسية قصيرة النظر بتحالفات مشبوهة مع الروس وغيرهم! ليرحل الرجل، كما غيره من مفكري العقلانية السورية القلائل، بوجدانه النقي وفكره المستنير بصمت مطبق، عدا قلة ممن يثمّنون المعرفة وثورتها الفكرية عبر النقد والتأسيس، رحل وهو يردد مدافعًا عن الثورة وقيمتها، سواء أرغب معارضوه ذلك أم رفضوا: إنها ثورة، تأسلمت أم تعلمنت فهي ثورة..

الروس لم يتخلوا بعد عن غطرستهم في كسر مدينة حلب حتى لو باتت دمارًا، حلب التي تأخرت في حراكها المدني، وثمة من تصور أن حراكها سيقضّ مضجع النظام ويهدد أركانه، حلب التي ما أن تحركت حتى خرجت من معادلة النظام الاقتصادية فعليًا فهي المدينة الأكبر صناعيًا والأكثر انتاجًا، ومع هذا استمر النظام ولم يسقط، وبقيت الثورة تحاول ولم تسكت.

لكن، أمام صمت العالم، بألوانه السياسية، الليبرالية منها والقومية والعروبية والمعولمة أيضًا، تجتاح غطرسة القوة المفرطة حلب ويُنكّل بأهلها إعدامًا وقتلًا وتهجيرًا، سوى قلة من ضميره المدني الذي يحاول جاهدًا أن يُنقذ المدينة أو يساهم على أقل تقدير بهدنة هنا، وتقديم مساعدات هناك، بنعي هنا ودعاء آخر هناك. ويبدو أن المصالح العالمية القذرة، تأبى أن تعيش حلب، وليست حلب فحسب، بل كل الثورة السورية، فمسار الإرادة الدولية يذهب باتجاه قطع الربيع العربي في سورية وإجهاض ثورات شعوب المنطقة.

قد يقول قائل هذه هي الرؤية التآمرية بذاتها! إن جميع الخطوط الحمر التي هدّدت أميركا بتجاوزها، من استخدام لأسلحة الدمار الشامل، للأسلحة الكيماوية، لانتهاكات حقوق الإنسان الصادمة في سورية، بحسب تصريحات منظمات العالم المتمدن ذاته، قد جرى خرقها كُليًا ولم يُحرك العالم ساكنًا.

من غير المسموح أن تنهض دولة وطنية في منطقة الشرق الأوسط، ويبدو هذا هو الخط الأحمر الوحيد لليوم المقبول به دوليًا، وتتفق عليه كل أطراف النزاع، وتذهب المدن السورية مدينة تلو الأخرى في موكب الموت الجماعي.

حلب، كباقي المدن السورية، تُنازع الموت وتغرق به وصادق جلال العظم، يُغيّبه الموت ويصطف البقية من أصحاب القلم والوجدان في الدرب ذاته ينتظرون.

مكر التاريخ مرة أخرى

لا تخضع كل أحداث التاريخ للمصادفة، فحسب المفكر عبد الله العروي في “العرب والفكر التاريخي”، التاريخ يمضي بمكوناته الداخلية، وبأسباب تشكلها المتعددة الأوجه، وعلى المثقف أن يكون امينًا في قراءته للتاريخ وتقديمه للمجتمع الإنساني، فلربما كانت الصدفة المحض وفاة المرحوم صادق جلال العظم والإجهاز على حلب معًا، ما يدفعنا إلى قراءة المشهد من زاوية أخرى. في أواخر مقالات العظم على الحوار المتمدن في 24/ 11/ 2016 العدد رقم 5351، يُصرّ العظم على نقدين، إضافة لنقده وتعرية السلطة الحاكمة دائمًا، الأول: لكلبية (cynicism)  ونفاق الخطاب الدولي وغير الدولي، الذي يُركّز على مسألة حماية الأقليات في سورية، وصون حقوقها وما شابه ذلك في اللحظة التي يقع فيها الدمار والخراب والقتل والاعتقال والتعذيب والمذابح على الأكثرية السنية وحدها تقريبًا.

والثاني نقد الإسلام السياسي وضرورات فصله عن الإسلام كحاضن ثقافي للأمة ودين عفوي لشعوبها. هي ليست مصادفة إذًا ولا مؤامرة قط، هو مكر التاريخ حين لا تكتمل شروط وعيه في ذاته، فلا القائمين على ثورة الشعب السوري أدركوا معنى المعادلة الخطيرة في ادعّاء محاربة الإرهاب وحماية الأقليات ومساراتها الدولية بقدر إصرارهم على خطاب أيديولوجي اسلاموي تعبوي لم يُدرك بعد خطورتها، ولا المجتمع الدولي أراد أن يقف عند حدوده القانونية والحقوقية في العدالة والمساواة بقدر استفادته من كل شرذمات هذه المعادلة! ليستمر المشهد السوري لليوم دون وعي فعلي مُحدّد وواضح لآليات اكتمال وتناغم الشروط الموضوعية في وعي الثورة لأهدافها الفعلية والمرحلية معًا، ليبقى المواطن البسيط، وقود الثورة وحطبها، يدفع الثمن الباهظ في دماره واقتلاعه من شروط وجوده كلية، مقابل نمو خطاب يتنكر للعقلانية ورموزها حتى اليوم.

أبطال التاريخ، حسب هيغل في مكر “العقل في التاريخ”، انفعاليون: فلا شيء عظيم يحدث دونما انفعال، لهؤلاء مشروعهم الخاص المُكتنز بالمعنى ولو أنه ليس بالمعنى الأخير. فلا مدينة كبرى كحلب يمكن أن تموت دون حدث عظيم، وموتها ليس نهاية الثورة السورية وإن مَكر التاريخ بها. الثورة لم تبدأ من حلب ولن تنتهي عندها، وقراءة الدرس بعقلانية تشترط العودة، وكل عودة للبدء تطور، لروح الثورة في مدنيتها وسوريّتها، دون أسلمة أو علمنة نفعية قصيرة النظر حيدت العقل والعقلانية وتكاد تُجهز على الثورة. وموت العظم ليس نهاية للفكر العقلاني والحداثي في اكتمال شروط وعي الأمة في ذاتها، هي مراحل متلاحقة ومتداخلة تنمو وتتقدم بفعل الثورة وكسرها جدار الخوف وإطلاق الإمكانيات السورية الخلاقة، والتي إن لم تجد مكانًا لها لليوم في المشاركة في صناعة الحدث فعلًا، فميل التاريخ لا يمكنه أن يبقى مُنزلقًا للنهاية نحو الانحطاط، بل هو ذاهب باتجاه الإعلاء من القيمة الإنسانية والثقافية التي كانت مُحرّك الثورة وصِنوها، وعند هذا الالتقاء تستمر الثورة ولن تتوقف.




المصدر