حلب والثورة والإنذار الأخير

16 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016

فادي كحلوس

لم تتوان الثورة السورية منذ يومها الأول، عن تقديم إشارات وإشعارات إلى حاجاتها، وتنبيهات إلى مخاطرها وإرهاصاتها، فمع انطلاقتها؛ انطلقت -أيضًا- الأنا الثورية المتضخمة، والتي اتسمت ملامحها، وتجلت في  كل مفصل من مفاصل العمل الثوري، وكانت أبرز تلك التجليات وضوحًا، هي ذهنية الاستحواذ ونبذ التشاركية، واللتان أفضيتا إلى المنافسة السلبية، والتي طغت على مقدمات العمل الثوري، ومع مرور الأيام وازدياد الإجرام الأسدي، طغى التطييف -أيضًا- على تلك المفاصل، وتمت إضافة عبارات وآليات وأهداف تختلف عن تلك التي مثّلت انطلاقة الثورة، ومع انحرافها الأول عن طبيعتها السلمية؛ ظهر على سطحها الاجتماعي والسياسي ملامح عديدة، تُنبئ بما هو آتٍ، والذي تمثل -في ما بعد- بخروج قرار الثورة الداخلي من يد السلميين إلى يد المسلحين، كمستوى أولي من الانحراف، فالسلاح لا يأتي وحده، وسيتدخل معه -بالضرورة- شروط ومواقف وأجندات تُنتج في المحصلة مصادرة مطلقة للفعل والقرار الثوري، ورميه مع ما يتعلق به من أدوات ووسائل  وقرار نهائي في حضن الممولين -كمستوىً ثانٍ لذاك الانحراف- ليخرج أصحاب الثورة (بخفي حنين)، إلا من الأثمان الباهظة التي دُفعت ولا تزال تدفع منهم.

يرى كثيرون أن إرهاصات الثورة السورية أتت نتيجة طبيعة لما طبق بحقها من عنفٍ وإجرامٍ أسديين بادئ الأمر، وليضاف إليهما مع تقدم سنوات الثورة، إرهاب دولي تجلى في مستويين؛ دعم مباشر لميليشيا الأسد بالسلاح والعتاد والمقاتلين، ودعم سياسي ولوجستي، رافقهما على طول الخط تواطؤ دولي، وأقول تواطؤًا وليس تخاذلًا.

إذن، ما حصل قد حصل، إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. فاليوم، ومع ما نشهده في مدينة حلب، ودون نسيان أو تجاهل أو إنكار لما حصل قبلها في مدن وبلدات عديدة، نحن أمام خيارين لا ثالث لهما، إما استرجاع ثورتنا باستعادة خطابها وآلياتها التي نشأت عليهما وصولًا إلى إيجاد مشروع سياسي وطني جامع، يتم القفز عبره فوق كل العوامل التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم، وإما استمرارنا في ما نحن عليه، والنتيجة -هنا- باتت بديهيةً وواضحة ً وضوح الشمس. فسيناريو حلب؛ ليس الأول، ولن يكون الأخير إذا ما تبدلت المعطيات التي أدت إلى هذه النتيجة، ومن غير المنطقي أن نتوقع نتائجًا مختلفةً في حين أن المقدمات لا تزل هي ذاتها.

بعد ما يقارب ستة الأعوام من عمر الثورة، أصبح في جعبة السوريين وعي وتجارب وخبرات قادرة على استعادة دورهم وفرض رؤيتهم الثورية الأصيلة، فعيوبنا أصبحت معروفة، ومكامن أخطائنا بادية للعيان، وما هو مطلوب منا لتحقيق أهدافنا في الحرية والكرامة غير عصي على التحديد والتبنيد. ولكن ما سبق ذكره -جملةً وتفصيلًا- سيذهب أدراج الرياح إن لم نتعامل معه بذهنية التجاوز والتراكم. وعلى عكس ما يسوق الكثيرون له، ما يزال في جعبة السوريين الكثير لفعله، بل هناك العديد من قطاعات العمل لم تنجز بعد، وعلى رأسها تشكيل جسم سياسي واضح المعالم، يتمحور حول مشروع وطني أمين على الثورة ومبادئها، تناط به القيادة الفعلية للثورة ومآلاتها، والمحافظة على ما تبقى منها لاستكمالها، وفق المستجدات الآنية والمستقبلية التي ستطرأ عليها، تكون بواكير هذا الجسم السياسي في الداخل السوري، ليصطف حوله كل من أدرك طقوس وإشارات ما لحق بثورتنا من هزائم، وكل من لا يستطيع الاستهانة بما قدم من تضحيات جسام في خضم هذه الثورة أو إدارة ظهره لها، وهنا؛ يأتي دور الداخل والخارج السوري في بلورة هذا الجسد والاصطفاف حوله.

إن مهمة تشكيل وتفعيل هذا الجسم السياسي ليس ترفًا كما يظنه بعضهم، بل حاجة وجودية، ولا سيما أننا بتنا ندرك أن معركتنا طويلة، وبأننا سنقتلع شوكنا بأيدينا، وبأيدينا فقط نواجه العالم بأسره وليس طغمة الأسد وحسب. وبأن هذه المهمة، لا مفر من إنجازها، فهي لازمة ومصيرية، ولا يمكن لثورتنا العظيمة أن تواكب استحقاقاتها أو تحقق أهدافها دونها.

تندرج اليوم أهمية العمل السياسي الجاد والحقيقي، ضمن الواجب الوطني أولًا، وذلك من منطلقين: الأول حاجة السوريين إلى حالة منظمة، واضحة المعالم، تؤطر الجهد المتناثر، وتتجاوز جميع الأشكال التي أعاقت وتعيق بلورة هذه الحالة التنظيمية المنشودة، والثاني حتمية وجود جسم سياسي يعبر عن تطلعات السوريين -آنيًا- ويشكل بحالته التنظيمية رافعة لتحقيق هذه التطلعات في إطار مستقبلي مفتوح ينحو نحو إيجاد بديل سياسي عن “النظام السوري”.

إن أي عمل لا يخدم الفعل السياسي هو عمل بلا جدوى، وإن بقاء مجالات العمل الثوري دون تأطير وتنظيم سياسي سيفضي إلى العدمية، ولابد -لهذا كله- من مقدمات تبدأ بتجاوز ما يشوب ذاتياتنا الثورية من عيوب، واستخلاص الدروس من تجاربنا واستثمارها وتوظيفها ضمن أي عمل وطني جامع مستقبلي.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]