في ذمة الغياب


حسن الخطيب

ليس ثمة من رحيل يقهر إرادتنا فنستسلم له بخشوع دون تمرد أو مقاومة، كالموت الذي يباغتنا على عجل، يدخل بيننا خلسة ويخطف أحبتنا واحدًا تلو الآخر، يفرّ بأرواحهم بعيدًا تاركًا لنا ألم الوداع وحسرة النظرة الأخيرة، فنودِعُ أجساد الراحلين أمانة في باطن الأرض تنفيذًا لطقوس العبور المقدس إلى العالم الأزلي التي أورثنا إياها أجدادنا، ثم ينتظر كل منا دوره دون اعتراض.

لا نشعر بالفاجعة إلا عندما نخلو بأنفسنا ليلًا بين الجدران المغلقة، نبحث في أخيلتنا عمن فقدنا أصواتهم إلى الأبد، نفتش في الذاكرة عن مفرداتهم المبعثرة بين أجزاء زمانهم الوجودي؛ كي نجعل منها وصايا تحافظ على مكانهم الرمزي في عالمنا المؤقت.

هل كنت تعلم يا ترى قبل أن تبدأ مسيرة غيابك الأبدي، بأنك سوف تحمل في خطاك آهاتنا المعذّبة فلا أدري أهي الحروف تعجز عن رثائك أم أناملي المرتجفة شلتها الفاجعة؟

لا أعرف بأي المفردات أسطر مأساة رحيلك الأبدي وأي الكلمات تترجم ما يفيضُ به القلب من أنين؟

ليس هناك عبارة بين كل لغات البشر تصف ما يحتل روح المفارق من شجن. وحدها –فقط- دموع السوريين كافية لاختصار كل معاني الألم…

لعل قدر السوري أن يوضب دموعه العاجزة، ويحمل حقائب الأسى المتراكمة فوق ظهره لترافقه في هجرته السرمدية من معاناة لأخرى! فلم تعلم أمهاتنا أن آلام مخاضهن لحظة إنجابنا ليس إلا نذر يسير مما تخبئه لهن هذه الدنيا من مواجع. لقد كان وهمًا ظنهن أن ما تحمله من ألم سيحول أملًا عند الصرخة الأولى، لحظة الولادة. لم يدركن أن كل أمٍ سورية ستكون خنساء وأن كل مولود سيُصلب لطهر حلمه كما المسيح وأن صبر أيوب سيتجلى بأنفاس كل أب…

هي لعنة الغياب حلّت بنا تمتص ما تبقى فينا من إرادة للعيش وتأذن للرحيل أن يخطف آمالنا ويغتال أحلامنا.

عند الرحيل أكثر ما يؤلمنا هو الذاكرة، حين تغدق علينا كل ما أجلناه من صور، فتغدو كل صورة -بحلوها أو مرّها- دمعة تغلفها ابتسامة حزن.

عند الرحيل نخضع لواقع موشح بالسواد، فكل ذكرى حلمنا بإحيائها -يومًا- باتت مجرد قصة مكسورة تختصر حنيننا للأمس، ومحال أن يدرك أبناؤنا وأحفادنا حسرة الراوي غدًا.

عند الرحيل أقصى ما بوسعنا فعله أن نواسي قلوبنا بريح عطور من غابوا، ابتساماتهم، دموعهم، ما أحبّوا من طعام، ما اعتادوا من كلام، الأرصفة التي تختزن خطاهم، وما سردوا من عباراتٍ للحب عند بوح الليل

بئس الحياة التي نحيا لا يد لنا فيها سوى بكاء من رحلوا، تاركين لنا كل هذا الإرث المحمل بالجراح، وبئس الحياة التي يحياها أحبتنا إن كنا سنتركهم مع ما يخلفه غيابنا من ألم.




المصدر