الدين والثورة في الربيع العربي

17 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016

أحمد الرمح

يشهد الربيع العربي عمومًا، والثورة السورية خصوصًا، انتكاسة خطرة، ولهذه الانتكاسة أسباب كثيرة، منها الموضوعي ومنها الذاتي؛ ولكن يبقى دور الحركات الإسلامية في هذا الربيع أحد أهم أسباب هذه الانتكاسة؛ حيث زجَّت بالدين في هذه المعركة بطريقة مغلوطة، أساءت له كثيرًا، وأعلنت فشل الإسلام السياسي وعدم قدرته على إدارة الأزمات.

بعد الذي حدث في حلب أيقنّا بأنّ العقلية الاستفرادية فشلت؛ وخسرت الرايات السوداء ثقة المجتمع بها؛ وانفضّ عنها حتى المتدينون؛ ولابد للمجتمع أنْ يُفكّر بعقلانية ووعي باتجاه ثقافة التشاركية الإنسانية الديمقراطية؛ لأنه لن يقبل استبدال استبداد علماني باستبداد إسلامي.

لقد جرى استغلال ظاهرة الربيع العربي من الإسلاميين؛ للوصول إلى السلطة على حساب الباعث الحقيقي لتلك الظاهرة، المُطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، فوقعت حالة سطو واضحة من قبلهم؟ حرفت هذا الربيع عن مساره؛ ووجهته باتجاه ديني سلطوي؛ أدى إلى صراع طائفي لا ناقة للمجتمع فيه ولا جمل. وهنا يأتي السؤال:

كيف نفهم علاقة الدين بالثورة

أعظم هديتين من رب السماء إلى الأرض؛ هما الإنسان والدين، ولكن هناك مِنْ حَمَلَة الأديان مَنْ فهم العلاقة بينهما فهمًا مغلوطًا، فبات التوظيف الرسالي بين الطرفين (الدين والإنسان) مغلوطًا؛ ما رسم صورة مُشوّهة للدين وحملته عند الآخرين، نتيجة هذا التوظيف المغلوط.

بدراسة الأديان وحراك الأنبياء في الكتب المقدسة؛ سنجد أن الرسل، عليهم السلام؛ كانوا ثوارًا بالمعنى النضالي؛ ومُصلحين بالمعنى الاجتماعي؛ وأنبياء بالمعنى الديني، وأن رسالتهم وحياتهم؛ كانت في خدمة الإنسان؛ لتخليصه من الجهل والاستبداد اللذين حاقا بالأقوام التي بُعثوا إليها من استبداد استخدم التدين وجعله خادمًا لسلطته! ولذلك كان الأنبياء ثوارًا حقيقيين من أجل استعادة الإنسان حريته وكرامته؛ وتصحيح مفهوم علاقة الإنسان بخالقه؟ لتتحقق العدالة الاجتماعية للمستضعفين.

إنَّ الحقيقة الأسمى للدين، الغائبة عن فكرنا وسلوكنا؛ هي أن الدين في خدمة الإنسان؟ وليس الإنسان في خدمة الدين! وعبر التاريخ كانت مقاصد الأديان خادمة للفرد والمجتمع، وليس العكس، أما الربيع العربي، فقد حمّله التيار الإسلامي ما لا يحتمل، إذ جعله وسيلة لمشروعه الديني السلطوي، ليخدم فئة من المجتمع ويُهمل البقية. فتلكم إساءة كبرى لعظمة الدين؛ سيدفع المتدينون ثمنها.

الدين والثورة

لا يشك أحد في أن المجتمع السوري مجتمع متدين ومؤمن ومحافظ، بمعظم أشكاله الفسيفسائية، وأيضًا لا يشكك أحد في أن هذه الثورة انطلقت من المساجد؛ وتحمّل عبأها الأكبر الإسلاميون، إذ قدموا تضحيات كبيرة وعظيمة! ولكن أيضًا لا نختلف على أن هنالك تيارات سياسية إسلامية استطاعت في لحظة النشوة الثورية؛ أن تختطف الثورة؛ لتذهب بها بعيدًا عن الأهداف التي قامت من أجلها، فحوّلتها إلى مشروع أيديولوجي إسلامي؟ فأصبحت -نتيجة ذلك الاختطاف الثوري- مُحتكرة من خلال شعارات تريد فرض مشروع إسلامي استبدادي، ذي وجه تطرفي؛ يُعيد إنتاج نظام الاستبداد بصورة دينية! الدين والمتدينون منه براء، وما الظاهرة الداعشية إلا مثال على ذلك؛ فضلًا عن تيارات إسلامية أخرى تقترب أيديولوجيًا في تفكيرها من المثال “الداعشي”، وهذا لا يتفق -أبدًا- مع المفهوم الديمقراطي والإنساني والمدني الذي ندعو له؛ والذي يرفض إلغاء أحد أو تهميشه أو إبعاده، ولأجله تحرّك المجتمع وانتفض.

من هنا ندعو إلى قيام مؤسسة تضم مفكرين إسلاميين وطنيين إنسانيين، مدركين الواقع واستحقاقاته، والعصر وشروطه؛ والوطن ونهضته، لهم حضور واحترام في الشارع؛ ليعملوا على هدف ذي أهمية عظيمة؛ يتمثل بجعل الدين خادمًا للإنسان والمجتمع والوطن. ولا يجعل من الثورة خادمة للمشروع الإسلامي المتشدد الذي يرفض الآخر! ويعمل على إقصائه تمامًا.

بمعنى آخر استغلال إيجابي لطاقة التدين المتأصلة في ثقافتنا لخدمة المجتمع ومطالبه في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وليس العكس؛ والعمل على إيجاد ثقافة دينية تعي العصر ومتطلباته؛ تقبل بالآخر وتحضُّ على الثقافة التشاركية وطنيًا واجتماعيًا وإنسانيًا، وتنبذ ثقافة القطيعة بمسالكها المتشعبة الطائفية والأيديولوجية والقومية المسيئة والمعرقلة لمشروع دولة المواطنة ذات العمق الإنساني والسلوك الديمقراطي في ثقافة أبنائها وسلوكهم.

ولابد من إبراز قدرة الدين العظيمة في المجال النفسي والاجتماعي أمام تدهور الحالة النفسية للمواطنين في دول الربيع العربي، وتردي أحوالهم الاجتماعية التي بدتْ واضحة جدًا في الفترة الأخيرة، فالدين علاج عظيم في هذا الجانب، هنا؛ يمكن استخدام الخطاب الديني للتخفيف من الأعباء النفسية التي أُلقيت على عاتق المجتمع.

إن الدين في الثورة وسيلة وليس غاية، والمستضعفون لم ينتفضوا لمشروع ديني بحت! إنما هناك مطالب حقوقية واجتماعية واقتصادية وسياسية، أرادوا الوصول إليها؛ فكان الاستبداد مُتغولًا في رده الوحشي، المتمثل بالقتل والتشريد والاعتقال والتدمير.

إن استغلال الثورة من أجل أهداف دينية سلطوية، يُسيء إلى الدين والثورة معًا! فلنضع الدين في مكانه الصحيح ثوريًا؛ حتى يكون مَعينًا للثورة لامُعينًا عليها، ولا تجعلوا منه مطيًة لأهداف تُسيء لطهرانيته ورسالته، فيكفر الناس به.

عندما يتحول قادة الثورة إلى أمراء حرب، سيكفر الناس بهم وبتدينهم! وعندما يجعل السياسي المتدين مشروعه الحزبي فوق المطالب الاجتماعية، سيكفر الناس بحزبه، وعندما يقهر الإسلامويين الناس على الحدود الشرعية، إنما يريدون إظهار الوجه العقابي للدين؛ كي ينفر الناس منه؛ فالتدين الذي لا يحمي الناس ويسعدهم تدين مغشوش؛ ودعاته مزيفون.

ولا يمكن أن تُدار أي ثورة ضد الاستبداد بمشروعين مختلفي الأهداف، أحدهما حقوقي، والثاني أيديولوجي؛ لأن ذلك يعني انتصار الاستبداد على المنتفضين؛ وإبراز صورة سلبية للثورة أمام الرأي العام العالمي؛ فيدفعه؛ كي يتعاطف مع الاستبداد ضد مطالب المجتمع المُحقة بحجة الإرهاب الذي أبرزه المتطرفون في تقديم صورة الربيع العربي للعالم.

إنّ سلوك التيارات الإسلامية في الربيع العربي عمومًا، والثورة السورية خصوصًا (عسكريًا وسياسيًا)، فشل بامتياز، وأساء للدين كثيرًا؛ ما دفع بالمجتمع ليكون كافرًا بمشروعهم السياسي؛ مُطالبًا بإبعادهم عن إدارة الربيع العربي؛ حتى تلتحم المكونات الاجتماعية ذات المطالب الحقوقية مرة أخرى؛ وتُصحح مسار هذا الربيع باتجاه الأهداف التي كانت باعثة لانتفاضته المتمثلة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

وإذا كانت مجتمعات الربيع العربي قد تخلت عن أصحاب الرايات السوداء ولفظتهم؛ لكنها بالتأكيد لن تتخلى عن تدينها؛ فالتدين مُكوّن أصيل في وجدانها، وواهٌم مَنْ يعتقد أنه قادٌر على اجتثاثه أو تشويهه باتجاه “داعشي”، أو جعله مشروعًا سلطويًا.

ولذلك لا بد من ظهور مبدأ اللاهوت التحريري؛ بمعنى تعاون أبناء المجتمع جميعهم بمختلف انتماءاتهم الأيديولوجية؛ لبناء جنة الأرض بإنهاء الاستبداد والإيمان بالحرية العاقلة للإنسان وتحقيق العدالة الاجتماعية؛ فمن لا يبني جنة الأرض لا يستحق جنة السماء، وهكذا كانت مقاصد الأديان برسالاتها المتعددة؛ ولذلك؛ استحق الأنبياء أن يكونوا أشرف وأعظم خلق الله.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]