الموتى لا يستطيعون أكلَ التوت
17 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
سوزان علي
قبلَ أن يترددَ البطلُ في انتحاره، الذي ظلَّ يسعى إليه أيامًا طويلًة، داخل سيّارته، راح يبحثُ عن المخلّص/ المساعد له في مهمته، لقاء مقابل مادي. ستسقط السيارة في الحفرة المجهزة للموت، وعلى المخلّص في اليوم التالي؛ إما الاستغاثة، أو ردم التراب فوق جثته، إن تحققت النهاية المرجوة. لكن راكبًا عجوزًا قتلَ تلك الرغبة بكلماتٍ بسيطةٍ وعميقة:
“الموتى لا يستطيعون أكلَ التوت، ألنْ تفتقد طعمَ التوت؟!”
شاهدتُ (طعم الكرز) الفيلم الذي فاز بجائزة السُّعفة الذهبيّة في مهرجان كان عام 1997، لكني كنتُ قد قرأتُه مصوّرًا بالكلمات:
“على رمالٍ ساخنةٍ
أسير بقدمين حافيتين
ومن نظرات العابرين
أحترقُ بأكملي.”
قبل أن تأخذني عجلاتُ سيّارةٍ ثانيةٍ في فيلم آخر، وراء انتحارٍ أقلّ قسوة في وضوحه، وتكلفة في طريقة عرضه: انتحارُ القيم والموروث على دفّة التناقضات والرضوخ والواقع… مسرح متجول تقودُه امرأةٌ في سيارتها داخل أحياء طهران، لم يخرج المشاهد إلا نادرًا جدًّا من تلك السيّارة، في لقطةٍ مع أحد الركاب؛ المومس التي شاهدت زبونًا يقفُ في الشارع.
فيلم (عشرة) الخارج عن المألوف والمعتاد في أدبيّات السينما وتقنياتها وحركات الكاميرا والسرد والديكورات المتعددة وأماكن التصوير، حيث تخلّى عباس كيارستمي عن التصورات التي يجب أن تقوم عليها السينما. جلس منفردًا بعيدًا. الأبطال داخل السيارة يتجولون بنا من مكان إلى آخر، عبر زاويتيّ تصوير وحيدتين، كنّا كذلك وحيدين مع تلك الوجوه، هذا ما جعل الواقع يتفرّد بنا، مفترسًا أجوبتنا البديهيّة، تلك التي صنعت -بشكلٍ خاص- من عالم المرأة جرحًا مفتوحًا، حَلقَت شعرها برمي حجابَها على الممنوع، لقد صرختْ ولم تصرخ، كانت صورةُ الاختناق تصلنا عبر الهمس.
قبل فيلم (عشرة) وكل ذاك الفن، قرأتُ:
الريح تخطف خمارَ فتاةٍ ابتدائيّة
عن حبل الغسيل
صباح السبت.
تعرفتُ إلى شاعر الصورة كيارستمي، في عددٍ من أعداد الفنِّ السابع، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب في دمشق عام 2008، والذي جاء تحت عنوان: (ذئب متربص -300 لقطة سينما شعريّة)، وقعت أخيلة كيارستمي في يديّ، أخيلةُ تموجُ عاريًة فوق الصفحات. في ذهن الشاعر كاميرا دائمة تلتقط التفاصيل الدقيقة جدًا، يصورها عبر الكلمات ويجعلُها تنطق وتتحرك وترقص وتزفر وتصرخ. في داخل الكتاب كاميرا ومخرج ولقطات رأيناها جميعًا ونسينا أن نصورها، أو لم ننتبه إلى الفطرة في الطبيعة الشاعرة:
أضمُّ يدي
مثل كأسٍ
وأشربُ الماء
من شلالٍ صغير.
أيّة عظمةٍ ليديّ؟
عُصارة للروح تلمع دهشتها في وجوهنا، نهاية أفلام كيارستمي قفلة هايكو، تجردنا من الزمان والمكان، نحو المجهول أكثر، يقتل الملل بالتكرار ويقتل التكرار بسجنِ اللّحظة مع سجانِّها واعتراف الأخير بما كان يُخفيه عن هذا العالم:
الريح
جَلبَت معها شجرة عائلتي
من نبتةٍ
بلا جذور.
ساعدَ التوثيقَ على العبور رقصًا وليس نسخًا، وأمسكَ الواقع من رجفته العميقة المعتمة الجاثية مع نفسها منذ زمن، والبسيطة حدَّ الفتنة، ساعدتهُ بصيرة الشعر أن ينقذَ الشكل من المادّة، والطبيعة من الغرق، والبساطة من الزوال. هذه القساوة غدت أليفًة دافئًة كقبلةٍ تعوّدنا عليها في فيلمٍ إيطاليّ:
لا أحسدُ أحدًا على شيء
عندما أقفُ مشاهدًا
الريح بين أشجار الحور.
درس عباس كيارستمي في كليّة الفنون الجميلة، صوّرَ الشعر، وكتبَ الصورة، وبينهما مرّ وقتٌ طويلٌ من الإبداع. تابعَ عمله في بلاده، بعد اندلاع الثورة الإسلاميّة، “رافضًا أن تغادر الزهرة تربتها، كي لا يتغير عطرها”، كما أجابَ عند سؤاله حول عدمِ خروجه من إيران، مثلما فعلَ كثيرون.
الماءُ الذي يجري
مهدورًا هناك
يروي الأعشاب البريّة الطالعة.
المشهد الأخير الآسن لحسين على دراجته، ممسكًا بيديه باقة زهور، كان قد اشتراها هديًّة كي يقدمها للعائلة التي كذبَ عليها، مدعيًّا أنّه المخرج حسين مخملباف.! القصة تحلّق بنا مع حلمٍ بسيطٍ فقط، حلم حسين في أن يكون مخرجًا، مشهد الفيلم الأخير:
كم هو قاسٍ
تأملُّ القمر المكتمل
وحيدًا.
قبل كل تلك الزفرات الحادّة المتصاعدة، وكأننا في عصرٍ لم تُكتشف فيه الكاميرا بعد، لم نكن أمام شاشةٍ نتفرجُ، كنا هناك، واقفين مع حسين داخل المحكمة، نبررُ للقاضي أحلامَ حُسين الذهبيّة، التي قادته إلى السجن.
قبل أن تأسرني تلك المشاهد من الحب الذي لا ندري كيف انتهى في: (تحت شجرة الزيتون).
أشعار عمر الخيام في: (الحياة ولا شيء آخر)، أحاطت بي كلمات المخرج الشاعر، مازال عباس كيارستمي يكتبُ، وأحلامي تصوّرُ تلك الكلمات لقطًة لقطة:
مزارعٌ متعبٌ
غافٍ
في ظلِّ فزّاعة الحقل.
مطرُ الربيع أطفأ النار
التي أوقدها بمشقةٍ
الراعي العجوز.
طعنُ آلاف الإبر
في قماشٍ حريريّ.
بضعُ راهباتٍ يسردن ذكريات
عن الطفولة
بين البنفسجات.
بلا اكتراثٍ عَبَرت الأفعى
بجوار جلدها.
[sociallocker] [/sociallocker]