ترامب وموسكو وبكين
17 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
طريف الخياط
يتغير ميزان القوى في العالم تدرّجًا، ويبدو أنه يدفع بالعملاق الأميركي نحو قراءة جديدة للخارطة الدولية، وبالتالي؛ إعادة تقييم أولوياته وتحالفاته لتأمين المصالح الأميركية والثوابت الاستراتيجية لسياسته الخارجية، حيث يُشكّل تنامي القوة الصينية اقتصاديًا وعسكريًا هاجسًا للأميركيين، ويفسر ذلك بعضًا من الخطاب العدائي للرئيس الأميركي المنتخب تجاه بكين، والميل نحو سياسة تصالحية تجاه موسكو.
“بكل تأكيد، قرر ترامب أن يقوم بما قام به نيكسون، لكن بالاتجاه المعاكس، فيتحالف مع روسيا ضد الصين” ديفيد جولدوين، مبعوث سابق للخارجية الأميركية مُصرّحًا لنيويورك تايمز بعد أن أعلن ترامب اختياره لريكس تيلرسون، الصديق المقرب لبوتين، بوصفه مرشحًا لوزارة الخارجية الأميركية. لقد انهار الاتحاد السوفياتي منذ أكثر من عقدين ونصف العقد، ولا يُشكّل الاتحاد الروسي على الرغم من خطواته التصعيدية ضد الغرب في أوكرانيا وسورية ندًا حقيقيًا أو محتملًا للولايات المتحدة، سواء أكان ذلك على الصعيد العسكري أم الاقتصادي، مع الأخذ في الحسبان مأزق الاقتصاد الروسي. الصين بدورها، هي القوة الاقتصادية الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة، ويمكن أن تحتل المركز الأول في العقود المقبلة. عسكريًا، فإن الجيش الصيني يسير بخطوات واثقة نحو الحداثة بنيويًا وتكنولوجيًا، وعلى مستوى التدريب والتسليح النوعي، ويرى الخبراء أنها مسألة وقت فقط حتى تتمكن الصين من منازعة الهيمنة الأميركية من موقع الندية إن لم تكن لتتفوق عليها.
منذ سنوات يجري الترويج في سوق الأفكار الأميركية بصوت خافت لسيناريو مُحتمل يدفع نحو التحالف مع روسيا في مواجهة الصين. حقيقة يعدّ المدافعون عنها، أن الجغرافيا تفرضها، بوصفها ضرورة ضمن إطار من الواقعية السياسية. بمعنى آخر، فإن ترامب لم يأت بجديد من حيث المبدأ عندما قرر مغازلة روسيا، لكنه في المقابل يُبدي أولوية لاحتواء الصين في مقابل التزام الإدارة الأميركية السابقة بأمن أوروبا الشرقية في مواجهة ميل روسي واضح للتمدد باتجاهها وتهديد استقراها.
تمر في بحر الصين الجنوبي، حيث تبني الصين قواعد عسكرية بحرية متقدمة تحت غطاء من التنازع على الحدود البحرية مع دول أخرى، أكثر من 40 بالمئة من التجارة العالمية، ويعدّ ضمان حرية الملاحة البحرية من الثوابت الاستراتيجية للولايات المتحدة بعدّها بحكم الأمر الواقع القوة الدولية التي تسيطر على طرق التجارة البحرية في العالم. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث يسهل تلمس القلق الأميركي تجاه الصين في التقارير التي تتناول نشاط الأخيرة في الانخراط عسكريًا في مهمات حفظ السلام الدولية وإنشاء قواعد بحرية لوجستية وعسكرية في ممرات وموانئ استراتيجية على امتداد الخارطة العالمية، بعدّ ذلك تعبيرًا واضحًا عن نزعة صينية لأنْ تلعب عسكريًا دور القوة العظمى في المستقبل، وذلك؛ فضلًا عن محاولاتها السياسية للتمظهر تدرّجًا بذلك المظهر. مرة أخرى، فإن ترامب لم يقم سوى بتعديل الأولويات من زاوية أنه يرى الصعود الصيني هو الخطر الأهم في مقابل آراء تمنح الأولوية لاستمرارية العمل على تعزيز تحالفات واشنطن التقليدية.
السؤال هنا، هل العالم بصدد نقلة استراتيجية نوعية في طريقة إدارة العلاقات الصينية – الأميركية؟ الجواب توحي به تصريحات ترامب بما يخص الالتزام الأميركي المعمول به منذ سبعينيات القرن المنصرم في عهد الرئيس الأميركي السابق، رونالد ريغن، والذي يُصطلح عليه بسياسة الصين الواحدة حيث تعترف واشنطن سياسيًا بدولة صينية تُمثّلها بكين فحسب، وتستمر في الوقت نفسه بتعزيز أمن تايوان عسكريًا بوصفها كيانًا قائمًا بحكم الأمر الواقع، دون أن يستتبع ذلك أي شكل من أشكال العلاقات الدبلوماسية. لقد خرق ترامب أحد أهم الخطوط الصينية الحمراء عندما استقبل اتصالًا هاتفيًا من الرئيسة التايوانية، وأتبعه لاحقًا بتهديدات بمراجعة السياسة الأميركية المعمول بها منذ عقود، عبر ربط ذلك الملف بملفات تجارية وأخرى متعلقة بما يعدّه الأميركيون تلاعبًا للصين بقيمة عملتها المحلية اليوان، وهي ملفات شائكة ومعقدة بين البلدين.
يرى العالم ترامب شخصًا خطرًا لا يمكن توقع قراراته، ويبدو أن الرئيس الأميركي المُنتخب سيستغل هذه النقطة بالذات في توجيه دفة السياسة الخارجية الأميركية. إن ذلك الوصف يتيح للأخير مجالًا مريحًا من المناورة عبر التنصل من القيود التقليدية التي تفرضها اللغة الدبلوماسية، أو على الأقل ضوابط الخطاب الأميركي بما يتلاءم مع حجم واشنطن ونفوذها على الساحة الدولية، وهو بذلك قد يدفع الآخرين إما للإذعان للمطالب الأميركية أو مواجهة خطر اللا متوقع من ردود الفعل. من المؤكد أيضًا، أن التمادي في خطاب من هذا النوع سيجعل التفاعلات السياسية الدولية تجري في أجواء من القلق والتوتر، بما يفضي إلى مزيد من الأزمات.
“لا نسعى إلى المواجهة مع أي أحد. لا نسعى إلى اختلاق الأعداء، بل نحتاج إلى الأصدقاء، لكننا أيضًا لن نسمح بأن يجري تجاهل مصالحنا” إنه بوتين هذه المرة، في خطابه إلى الجمعية الفيدرالية الروسية في الأول من كانون الأول/ ديسمبر الجاري. هي رسالة تصالحية لا تزال تتلمس النيات الأميركية للإدارة المقبلة. كيف سيجري ترجمة ذلك بالنسبة للمصالح الروسية في أوروبا وسورية بالدرجة الأولى؟ هذا ما ستجيب عليه إدارة ترامب بعد أن تستقر أركانها في البيت الأبيض. وأيضًا، إلى أي مدى من الممكن أن تنخرط روسيا في جهد واشنطن لاحتواء الصين؟ ولا سيما أن علاقات بكين وموسكو شهدت تناغمًا واضحًا في عهد أوباما، ذلك؛ فضلًا عن الممانعة الداخلية التي قد يواجهها ترامب في تقارب غير محسوب مع روسيا. أخيرًا، أليس من الممكن أن يخيب بوتين أمل ترامب في ما يخص سياسة محتملة تتوجه لاحتواء الصين، كما خاب أمل أوباما بما يخص تعاون موسكو في سورية؟
[sociallocker] [/sociallocker]