كفانا نواحًا… سورية محتلة
18 ديسمبر، 2016
ثائر الزعزوع
تُشكّل الصور الكارثية التي تولت عشرات وكالات الأنباء توزيعها حول العالم للمأساة، أو “التغريبة” الحلبية، تيمنًا بمثيلتها الفلسطينية، خاصة خلال الأيام الأخيرة، أي: منذ بدء عملية التهجير، والسلخ الديموغرافي الممنهج الذي تتولاه وتشرف عليه القوات الروسية، بالتنسيق مع قوىً إقليمية ودولية، تُشكّل تلك الصور، إضافة إلى الشهادات التي بثها ناشطون ظلوا متمسكين بحلم البقاء في بيوتهم ومدينتهم، وهم ينتظرون أن تنهمر البراميل المتفجرة والصواريخ على رؤوسهم، صفعة مدويّة للضمير الإنساني وللأخلاق عامةً، وهي لم تعد تتوقف عند وصف ما حدث -ويحدث- بالعار، أو بجريمة الصمت الدولي، لكنها تتجاوزه؛ لتصل إلى حد التشكيك في كل ما يتشدق به المتشدقون حول العالم عن معاني حقوق الإنسان والقيم، ويُسقط في طريقه عشرات المنظمات والمؤسسات، وفي مقدمتها الأمم المتحدة بفروعها كافة، والتي تقول: إنها كانت عاجزة عن فعل شيء. وهي -أيضًا- تضعنا أمام أسئلة حرجة حول مستقبل العالم في حال استطاع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، فرض رؤيته على السياسة العالمية، وخاصة بعد اعتراف الرئيس الأميركي المنصرف، باراك أوباما، بأن بلاده فشلت فشلًا ذريعًا في سورية، وهذه العبارة يمكن قراءتها بصيغة مقلوبة، أي: إن روسيا نجحت نجاحًا باهرًا في سورية، وغير مهم هنا النواحي الأخلاقية أو سواها، ما دام الأمر صراعًا بين قوى عظمى، يذهب ضحيته مدنيون دائمًا، وتتشظى بسببه الجغرافيا، بحيث يكون أمر إعادة تجميعها صعبًا، مهما بلغنا من التفاؤل وبالغنا فيه، إذ لم يعد الأمر متعلقًا بسقوط النظام كما كان مؤمَّلًا، بل صار مرتبطًا ارتباطًا وظيفيًا بإرادات خارج السيطرة، ولابد أنها كانت خارج حسابات السياسيين الذين تصدروا المشهد بداية، ثم بدؤوا -شيئًا فشيئًا- ينسحبون منه، ويبرئون أنفسهم مما اقترفوا من تحليلات وترتيبات، أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه.
نجاح روسيا -إذن- يستوجب معه النظر إليها بوصفها قوة احتلال، وينبغي معاملتها وفق هذه الصيغة، وإن حاولت قيادتها التنصل بين الحين والآخر عبر تصريحات طارئة، كأن تردد -على سبيل المثال- ادعاءها أن القرار في النهاية يعود إلى نظام دمشق، لكن الوقائع لا تدع مجالًا للشك في أن نظام دمشق نفسه لا يخجل من التفاخر بالوصايتين: الروسية والإيرانية، كما أكد رأس النظام أخيرًا، حين سئل عما سوف يحدث بعد حلب، فقال بأنه سيتفق عليه مع حلفائه، والأصح أنه سيتلقى الأوامر من حلفائه. ويجب -وفق هذا التوصيف العلمي- أن تتصرف القوى المعارضة السورية، سواء أكانت مسلحة أم سياسية، لمقاومة هذا الاحتلال، بوسائل شتى، سلمية وعسكرية، والاستعداد لمرحلة مختلفة من مراحل العمل الثوري، هي مرحلة المقاومة الشعبية التي تهدف إلى طرد المحتلين وعملائهم، علمًا أن مجلس الدوما الروسي صادق، أوائل تشرين أول/ أكتوبر من هذا العام، على بقاء القوات العسكرية الروسية في سورية إلى أجل غير مسمى، ولم يعد الأمر مرتبطًا، كما هو واضح، بالقضاء على الثورة الشعبية ضد نظام دمشق، ولا حتى التنظيمات الإرهابية التي تقول موسكو إنها جاءت لتحاربها، بل يتجاوزه إلى أبعد من ذلك بكثير، فروسيا تعيد رسم خريطتها العسكرية التوسعية، مثلما فعلت غداة الحرب العالمية الثانية، لكنها هذه المرة تفضل الاقتراب من المياه الدافئة، والاستقرار على شواطئ المتوسط، في منطقة تعدّ من أكثر المناطق أهمية من الناحية الجيوسياسية، دون أن نستبعد وجود اتفاق أميركي – روسي على تقاسم أو تبادل مناطق النفوذ، وهذا ما قد تكشفه الأشهر الأولى من ولاية الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، الذي يبدو حتى الساعة رجل موسكو في البيت الأبيض، سواء من خلال تصريحاته، أم من خلال اختياراته لأركان حكومته.
وفي حين تبدو موسكو، ظاهريًا، قابضة على اللعبة بإحكام، فإن قوات الاحتلال الإيرانية ليست في حال مشابهة، بعد تحولها منذ التدخل الروسي من لاعب أول إلى لاعب ثانٍ، واصطدام مشروعها بالمشروع الروسي، دون أن ننسى التهديدات المستمرة من الإدارة الأميركية المقبلة بنزع أنياب إيران ومخالبها، وإعادتها إلى حجمها الطبيعي.
لن نشكك في أن قيادة المعارضة السورية، والقوى الثورية على الأرض، لم تقم بإجراء مثل هذا الجرد السريع للمواقف، لتحديد الآلية التي ستعمل بها لاحقًا، ولا سيما أن التهديد الروسي قد ينتقل إلى محافظة إدلب؛ لإخماد جذوة أكبر معقل من معاقل الثورة السورية، إذ لا يكفي -كما بات واضحًا- استجداء العالم والتوسل إليه وعرض أشلاء الضحايا والمهجرين، ولا حتى التقارير الأممية الصادمة التي تشخص الوضع السوري بوصفه الكارثة الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، لا يكفي هذا كله لمقاومة قوات الاحتلال، ولن تكفي -كذلك- الشعارات الحماسية على طريقة الرئيس الليبي السابق، معمر القذافي، حين كان يهتف: (طز بأميركا… طز بإسرائيل)، كما بدأ يردد على الفضائيات بعض الوجوه البارزة في المعارضة، سياسية وعسكرية، ولن يكون كافيًا -بطبيعة الحال- الاستمرار في عزف الاسطوانة القديمة نفسها، عن إسقاط نظام دمشق، لأن سقوطه لن ينهي أيًا من الاحتلالين، لكن -في المقابل- طرد الاحتلالين: الروسي والإيراني، سوف يسقطه تلقائيًا، دون أن يعني التحول إلى مقاومة شعبية ضياع الثورة، أو نسيانها، لكنه يمثل مرحلة ضرورية لتحرير سورية، إذ ما فائدة إسقاط النظام وبقاء قوات الاحتلال؟ وهل تقبل قوات الاحتلال بإسقاط نظام يشرعن وجودها؟
[sociallocker] [/sociallocker]