مفهوم الإنسان بين الغرب والشرق

18 ديسمبر، 2016

رانيا توفيق الحلاق

خلال جلسة في مقهى مع صديقتين مختلفتي الهوية والانتماء الديني والثقافي والقومي، لمستُ -بوضوح- انعكاس هذا الاختلاف على رأييهما في حادثة معينة. إحداهما بريطانية، ديانتها المسيحية وكاثوليكية المذهب، أعرف عنها أنها متدينة، ومن المواظبات على الكنيسة كل أحد. والثانية عربية تنتمي إلى أسرة مسلمة، لكنها تعرّف نفسها على أنها لا دينية. دار الحديث بيننا عن الأوضاع العامة في بريطانيا، سياسيًا وإنسانيًا، وعن اللاجئين وأحوالهم، وجدل فتح أبواب اللجوء للسوريين وغيرهم. أخذتنا الأحاديث إلى فاجعة الحج الأخيرة، وأسباب حصولها هذا العام، وحدوث أشياء قريبة منها في الأعوام الماضية. في أثناء الحديث اندفعت البريطانية للدفاع عن المسلمين وحقهم في ممارسة شعائرهم في الحج، ردًا على استهزاء الصديقة العربية بالحجاج، بل وشماتتها بسقوط قتلى في مكة. كانت البريطانية ترى في الحج طقسًا دينيًا يجب احترامه، ولا يحق لأحد الاستهزاء به، وأبدت حزنها على العدد الكبير من ضحايا الحوادث الأخيرة، بينما الأخرى، التي تنتمي في الإطار العام إلى الهوية، إلى هوية الضحايا، عاكستها الموقف إلى حد كبير. الأمر مثير للاستغراب.

وأنا أتابع الحوار بين الاثنتين، وجدت نفسي متفرجة، تحاول فهم مشهد من مشاهد “الحبكة السينمائية”. يتمنى المرء أن يكون هذا الحوار فيلمًا وحسب، وليس حقيقة. مفارقة وحيرة أن سيدة كاثوليكية متدينة تدافع عن حقوق المسلمين بانفعال، والأخرى التي تشبه لون وانتماء بعض الضحايا تشمت! بعدٌ شاسع بين رؤيتين، لا علاقة للدين بهما، بل هما محضُ تصورين متباينين عن الحياة والإنسان.

من يعيش في أوروبا مدة لا بأس بها، ويحاول أن يعايش الأمور بتجرد، يتيقن أن الإنسانية هي ثقافة شعب يجري تعليمها منذ الصغر، ثقافة كيف تكون إنسانيًا، بدءًا من الأسرة، ثم المدرسة، ثم الممارسة اليومية في الحياة العامة. فمثلًا، يجري في المدارس الغربية تعليم الأطفال مساعدة الآخرين، كأن يُطلب منهم جمع المال لمساعدة المحتاجين، أو الاعتناء بكبار السن.

هذه الملاحظات اليومية داخل مجتمع يجمع المتدين واللاديني، تشير إلى أن الإنسانية تنشئة مكتسبة، تُعلَّم وتُبنى تدرّجًا. وهي ليست حكرًا على عرق أودين، إنما تتطلب إصرارًا على تحويلها إلى قاعدة اجتماعية، تعتمد على ثقافة أن نكون إنسانيين، بغض النظر عن الإنسان ولونه ودينه وقوميته، أي: إن النظرة الإنسانية تكتسب فاعليتها بالامتزاج بين المعرفة والممارسة.

على الرغم من بساطة مفهوم الإنسانية، حين نلاحظها في الممارسة اليومية لشعوب حساسة إنسانيًا، إلا أنه ليس نقاطًا صغيرة وكفى، كمساعدة الآخرين، والشعور بالحزن عندما يتألم أحدهم؛ فهذه مظاهر من مظاهر الحساسية، يجمعها مفهوم كلي واسع لا تحصى حالاته، بل تتكاثر بحسب مقتضى الحال والمكان والزمان والحدث. المفهوم يعتمد على أن الإنسان الفرد هو الأولوية القصوى، قبل أي حسابات أُخَر، سواء أكان في القوانين أم في التعاملات اليومية أم في الحياة العامة، في ساعات الصخب أم في أوقات الاسترخاء.

ربما ارتبطت الإنسانية لدى كثيرين بلائحة حقوق الإنسان المعتمدة في الأمم المتحدة، وفي الحقيقة، تنبع اللائحة من المعنى الأول، أي: إن العيش حق أصيل لكل البشر، ثم إن الفرد قبل الأسرة، قبل المجتمع، وقبل أي شيء؛ فلا يمكن أن تُبنى أسرة إذا لم تكن هناك خصوصية للإنسان الفرد، وحقوق خاصة به، ولا يُعوّل على مجتمع يكون أفراده شأنًا ثانويًا. ولأن المفهوم الإنساني يعلي من شأن الفرد، ويحفظ حقوقه، فإنه -أيضًا- يعمل على تنظيم الحدود بين الأفراد؛ كي لا يطغى أحدهم على الآخر، لذا؛ فإن واحدًا من أهم الأسس هو المقولة الشهيرة، المنسوبة إلى مونتسكيو، والتي تعد الأهم في حياة الشعوب الغربية (تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين). وفي هذه الحال تصير الحساسية الإنسانية، وضمان حقوق الفرد، ضمانة لديمومة المجتمع.

إن الحساسية الإنسانية، والمفهوم الواسع لها، يتخذ طريقه في الممارسة إلى تفصيلات التفصيلات في حياة الأفراد، فهو يتسرب -لا شعوريًا- إلى ممارسات صغيرة ويومية؛ لتصبح قالبًا لا إراديا يؤطر الناس، دون النظر إلى أي تفصيل آخر، جوهره أن الآخرين بشر. فالإنسانية تعمي الناشئين عليها عن رؤية أديان وألوان وأعراق الآخرين.

هنا؛ لا يعني أن الشعوب الأخرى لا تملك شعورًا إنسانيًا في كثير من الحالات، وإنما يعني أن الحساسية غير كاملة، ناقصة بدرجة رئيسة، والسبب في هذا أن الانتماء الرئيس الذي يحرك المشاعر والرأي والموقف في بلدان مغايرة وشعوب أخرى، كالشعوب العربية، هو الانتماء الجمعي، سواء إلى المذهب أم القومية أم القبيلة أم الطبقة الاجتماعية، وليس الإحساس بالأفراد، لذا؛ تصبح الأولوية للمشابهين لنا في انتماءاتنا، ثم بعد ذلك، تأتي المشاعر الإنسانية، مع التأكيد المستمر –طبعًا- على أن الحساسية -قبل كل شيء- تعلي من شأن الحياة، ولا تفكر بالموت ولا تتمناه.

وهذا –أيضًا- لا يعني أن المجتمعات الغربية مجتمعات كاملة، فهي تعاني -من ناحيتها- من مشكلات كثيرة، وأحيانًا تخضع لخديعة السياسات، لكنه يعني قوة الحساسية الإنسانية، لدرجة أنها تشبه من يُفَزّ بِدويّ انفجار، لذا؛ لم ترَ تلك السيدة الكاثوليكية موت المسلمين بعين دينها؛ لأنها نشأت على غير ذلك، بينما قيّمت العربية الأمر بحسب المعتقد.

الخلاصة؛ عندما أكون إنسانية، أكون في الوقت ذاته عمياء، لا يثير إنسانيتي المذهب أو اللون أو العرق إنما الإنسان وحسب. ثقافة الإنسانية لا تأتي من فراغ، هي جزء من حضارة الشعوب، أو بمعنى أدق الحساسية الإنسانية هي محرك قيم الحضارة الحديثة، وهي التي ستكفل يومًا ما الوقوف ضد السياسات الجائرة التي تبنيها مصالح الدول الكبرى، والتي تتصرف -في كثير من الأحيان- بخلاف قيم مجتمعاتها.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]