أطفال المنافي… وامتحان الشتاء
19 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
إبراهيم الزيدي
لا أعرف لماذا تنظر هذه الأمة في اتجاه واحد، وكأنه لا يحق لها أن تلتفت! منذ عام 1948 والنكبات تلاحقها، بعضها من صُنع قادتها، وبعضها الآخر من صناعة الأعداء، دخلت معترك القرن العشرين بنكبة، خلّفت مليونًا ونصف المليون لاجىء، بينهم أكثر من 560 ألف طفل، وتتالت النكبات، وكنّا لكل نكبة نبتكر اسمًا يميزها عن سابقاتها، وها نحن ندخل حرم الألفية الثالثة، بالقدم اليسرى، فالقدم اليُمنى تعثرت بتقرير منظمة “اليونسيف” لعام 2012 الذي يقول إن 13 مليون طفل من العراق وسورية واليمن وفلسطين وليبيا والسودان باتوا خارج المدارس! علمًا أن منظمة “اليونيسيف” لا تستطيع الوصول إلى كل المناطق في هذه الدول. أما تقريرها لعام 2014، فإنه يشير إلى أن الصراع في سورية وحدها، أثّر في 5.5 مليون طفل، وكلمة “أثّر” هذه، التي جاءت في التقرير، تعني أن بعضهم قضى نحبه، وبعضهم انصرف إلى العمل، وثمة من جرى تجنيدهم، وهناك من أصبح مُتسولاً، إلى غير ذلك من مهن الشوارع الخلفية للبؤس. هذا متن النص، في الهامش ثمة عناوين فرعية، ليس أخطرها نبش حاويات القمامة بحثًا عن طعام!! وكأنه ثمة من يريد تحطيم الأطفال، ليصبحوا غير صالحين لأزمنة أخرى!!
في مخيمات اللاجئين العشوائية في لبنان رأيت دوافع التسوّل، كما لم يشرحها أحد!! بما في ذلك تسوّل الرحمة والشفقة، رأيت البؤس بجميع أشكاله، وتجلياته.
أما في سورية، فاليأس منتصب القامة يمشي، وعيون الناس تراقب تباشير الشتاء، بحذر وخوف. وكأن متلازمة القهر السوري لم يعد لها مضادات اجتماعية أو إنسانية، أما تلك المضادات الحقوقية، فهي لا تساوي الحبر الذي كُتبت به!! فالمأساة لم تجرد الأطفال السوريين من ابتساماتهم وحسب، لا بل من أحلامهم أيضًا. فقد أكّد تقرير “اليونسيف” لعام 2015 أن معدل الضحايا من الأطفال كان أعلى معدل سجل في أي صراع وقع في المنطقة في الآونة الأخيرة، وما زالت أصابع الأسئلة تبحث عن كفّ يتبناها!! ولا أحد يمشي في طريق الظلام هذا.. سوى تقارير المنظمات الدولية، والتحقيقات الصحافية!! أمّا القرارات القابلة للتنفيذ، فلم تأخذ مصير الناس في حسبانها، وكأننا مجرد أرقام نتبادل المواقع، نتحول إلى لاجئين في موقع، ونازحين في موقع آخر، وقتلى في جميع المواقع. أما الوطن فقد تحول إلى ذاكرة إنشائية، وقد انتهت مدة صلاحيتها، لدى كثير ممن غادروه برفقة امتيازاتهم. وتركوا لنا ساحة الصراع في معركة الأمل.
“تنسيم” ذات الخمس سنوات، في مخيم بر الياس، تلبس بقدميها حذاءً بدون جوارب، وتفتقد لعبتها، وجواربها التي تركتها في “حي الوعر”. أما “ميادة” ذات السبع سنوات، والبنطال الرّث، التي ما فتئت ترفعه، وهي تتحدث إلي، فقد تحدثت بحكمة أصحاب الخسارات الفادحة، فهي تفتقد “والدتها” التي بقيت تحت الأنقاض، في ريف حلب. ثمة طفل آخر اسمه أحمد، قدم من دير الزور إلى اللاذقية برفقة والديه، ومن بقي من أخوته، وقد قدّم استقالته من المدرسة إلى أجل غير مسمى، وصار يعمل “صبي نارة” في أحد المقاهي!! هذا الطقس الملائم جدًا لهطل الحزن، جعلني أستحضر كل البكاء المؤجل، وأنا أتساءل عن كمية البراءة الموجودة في هذا العالم، وكم ستتضاءل؟! وكيف ستصمد طفولتهم أمام مجرى هواء الوطن، قبل أن يقضوا في نزلة برد، تصفع أمهاتهم فتقضي في نزلة قهر.
أي وطن هذا الذي لم يستطع رحمه أن يأوي طفولتهم، وتركهم ينامون تحت أنقاض الكلام.
[sociallocker] [/sociallocker]