المونتاج السينمائي
20 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
فيصل الزعبي
من الصعب الحديث عن المونتاج السينمائي، إلا بصفته علمًا له مفاهيمه وتقنياته، من الناحية الإبداعية، من جهة، والناحية التكنيكية (تكنولوجيا المونتاج)، من جهة أخرى، حيث بات لهذا الإبداع الخاص، موقعه المتميز في السينما، بوصفه بناء فنيًا أساسًا، يحمل قي صيرورته ثقافة خاصة من ثقافات متنوعة، يتكئ عليها كاتب السيناريو منذ البداية، ويبني عليها المخرج إبداعه وطريقة إنشاء فيلمه.
فالمونتاج يحمل في مفاهيمه، اتساع الأفكار وتراتبيتها، بحيث تشكل الطريقة المبتغاة للتلقي من مبدع الفيلم.
كثيرون يعتقدون أن المونتاج اختراع سينمائي، اخترعته السينما، لكنه -في الواقع- لغة فنية صاحبَت السرد. وهو قديم قدم الحكاية المحكية، بشكلها الشفوي، كما صاحَبَ السرد الصِّوري، منذ الرسم على الكهوف القديمة.
لقد سمح المونتاج (القص واللصق) بسرد الحكاية الشفوية على ألسنة الناس بأشكال مختلفة، وطوّرها، وعمل على اللعب بجوهرها. وبفضل المونتاج، بات من الممكن التعامل مع أشكال فنية متعددة للمحتوى والموضوع نفسه، حيث يجري خلق إيقاعات مختلفة للعمل الفني؛ ليصبح سرد الحكاية ممكنًا، بطرق شتى، نتيجة لغة المونتاج المختارة.
يتطور المونتاج اضطرادًا، مع تطور السينما، وتطور تقنياتها العلمية والتكنيكية والفكرية.
هذا المصطلح الذي استعارته السينما من عالم الصناعة، والذي كان يعني بالأصل “التركيب”، توليف الآلات مع بعضها… جاءت السينما واستولت على هذا المصطلح التكنولوجي؛ ليأخذ في عالم السينما معنيين: تكنيكي تقني، وفني فكري؛ حيث بدت السينما وكأنها صاحبة هذا الاسم لغةً وجذرًا وتقنية.
لقد بات للمونتاج السينمائي، صفة تركيبية تكنيكية لا يختلف عليها اثنان، إنما أصبح لكل مخرج وصانع فيلم طريقته في هذا التركيب، ليصبح المعنى فنيًا بذاته، له طريقته ورؤيته في فحوى هذا التركيب، وتعددت مدارس المونتاج من مخرج إلى آخر، ومن عمل سينمائي إلى آخر.
لذلك، فتركيب اللقطات، أي: المونتاج، ليس حاجة تركيبية تكنيكية وحسب، بقدر ما له من ضرورات وعي خلّاقة، تعكس وعي المبدع، وتعكس البناء العاطفي لتركيب لقطات الفيلم.
في بنية المونتاج الفيلمي -المدروس إيقاعيًا- ضمن تركيب سرد الحكاية وأثرها في المتلقي، لا يمكن ضبط إيقاع الفيلم بمعزل عن بنية تركيبه المونتاجي؛ فللمونتاج علاقة مباشرة بعمل الممثل، وخلق المنبه الفني لإبداعه لدى المتلقي، وضبط أدائه من خلال القطع في أحجام اللقطات، كلقطة تفصيلية أو لقطة قريبة أو لقطة عامة… وهذا يحدده أداء الممثل، وكيفية سرد الأحداث، وخلق أثرها.
أسلوب المونتاج يبدأ تحقيقه الأولي من بناء النص والتصوير، وأسلوب المعالجة الفنية للعمل السينمائي. فلغة المونتاج تدفع صانع الفيلم إلى التفكير في تشكيلية اللقطة، وفي “ميزانسين” المشهد (حركة الممثلين وحركة الكاميرا)، والتفكير في حركة الممثل، وتحديد جغرافيا المشهد؛ كي تقدر عين المتلقي على ملاحقة التعامل مع واقعية وجودها واتجاهاتها في الحوار، وملاحقة الحدث.
ومع أن المونتاج السينمائي قد تأخر عن اختراع السينما 1895، حيث كان المونتاج -بعد ذلك بسنوات (1922)، كانت اللقطة السينمائية، قبل ذلك، من دون مونتاج؛ أي تحرير، ودون قطع (حجم اللقطات).
بقي علم المونتاج يتطور مع تطور السينما (ظهور الصوت وظهور اللون؛ فالمونتاج اللوني والمونتاج الصوتي الذي دخل، بوصفه مفهومًا وعبئًا جديدًا على صانع الفيلم، صار لغة فنية جديدة).
وكذلك نوع الفيلم اصطحب معه نوعًا ولغة مونتاج جديد، (فيلم روائي، فيلم وثائقي، فيلم تسجيلي، فيلم علمي)، ثم جاء -بعدئذ- فن المنوعات البصري، من برامج، وفيديو كليب، وربورتاج، وأخبار، وغيرها. وتطور المونتاج مع تطور أدوات السينما، كالزوم والرافعة والسكة (التراك) ومانع رجرجة الكاميراsteadicam … إلخ. كل ذلك تطلب لغة مونتاج جديدة، تلاحق التكنيك من جهة، والإبداع من جهة أخرى.
والمونتاج –كما سبق القول- لا يخص السينما وحدها، فهو لغة لكثير من الأنواع الفنية والأدبية الأخرى، إذ يدخل في بناء القصيدة، والرواية واللوحة التشكيلية والموسيقا، وكل الأعمال الإبداعية، وهو أداة مهمة لتشكيل الصورة الذهنية للمتلقي، من خلال ربط تقاطع الأفكار والصور الإيحائية، من خلال التعبير الذكي للنص واللوحة والجملة الموسيقية، كما الصورة في السينما تمامًا، فلا يمكن –أيضًا- سرد الحكاية وخلق لغة التشويق -وهي لغة مهمة لأي عمل إبداعي- إلا بلغة مونتاجية فذة.
مع عشرينيات القرن العشرين للفيلم، قام المخرج الروسي، سيرغي إيزنشتاين، بوضع “نظرية المونتاج” التي تتكون من خمسة أنواع، منها:
- المونتاج الرمزي، أي: قص/ قطع اللقطة؛ لإضافة معنى رمزي.
- المونتاج التسارعي، أي: تتابع قص/ قطع اللقطات؛ للإيحاء بسرعة الزمن.
- المونتاج الإيقاعي، أي: القطع والقص، وجعل اللقطات تتحرك بوتيرة محددة.
كانت السينما -في ذلك الزمن- صامتة، وبالتالي؛ كان للمونتاج أهمية جوهرية في خَلق المعاني وخلق الصور الذهنية، ومن أبرز أفلام سيرغي إيزنشتاين التي كانت أمثلة فعلية على نظرية هذا المونتاج، فيلم “المدرعة بوتمكين” عام 1925، وفيلم “ثورة أكتوبر: عشرة أيام هزت العالم” عام 1928.
- المونتاج المتوازي، أي: خلق حدثين وحكايتين تسيران في الوقت ذاته.
- المونتاج المتوالي، مونتاج توالي الأحدث كسيرورة الحكاية.
وأخيرًا وليس آخرًا، المونتاج مفردة رئيسة، تحقق تركيب الفيلم والعمل الإبداعي عامةً، وهو الذي يدلنا على الفرق بين الزمن الفني والزمن الواقعي، وهو الذي يشكل اللغة التعبيرية للبناء الخارجي الشكلاني للغة الفيلم أيضًا، وفي تحديد الهدف العام والخاص للفيلم، وهو الذي يتحكم بما نراه على الشاشة من صانع الفيلم.
ولا نبالغ إذا قلنا: إن المونتاج هو ديكتاتورية المخرج المطلقة على الشاشة، لعرض فيلمه وأفكاره وحكايته.
[sociallocker] [/sociallocker]