حاجة السوريين إلى كيان سياسي


ماجد كيالي

مازال السوريون بحاجة ماسة إلى كيان سياسي، يمثّلهم ويعبّر عنهم ويصوغ إجماعاتهم السياسية ويقود كفاحهم؛ من أجل سورية لكل السوريين، متساوين وأحرارًا، في دولة مدنية، ديمقراطية وتعددية، تعكس حال التنوعّ لدى الشعب السوري، من دون أي تمييز بين مكوّناته الهوياتية: الاثنية والدينية والمذهبية والعشائرية والمناطقية والأيديولوجية.

الفكرة أنه لا يستقيم الحديث عن سورية واحدة بدون تمثل ذلك في دولة مواطنين، التي تتيح تحويل السوريين إلى شعب حقًا، لأن وحدة الأرض، أو الدولة، من دون وحدة الشعب، لا تعني شيئًا سوى إيجاد نظام استبدادي أخر، يقوم على القسر والإكراه والإخضاع في علاقته بالشعب. ولأن النظام السياسي الديمقراطي الليبرالي الذي يتأسس على المواطنين الأحرار المتساوين، هو الشكل الوحيد الذي يحول دون إيجاد أقلّيات وأكثريات من نوع هوياتي، أي انقسامات عمودية، إذ تتموضع فيه الأقليات والأكثريات تموضعًا أفقيًا عابرًا للهويات الدينية والمذهبية والاثنية، أي: تبعًا لرؤاها السياسية وما تعتقده مصالحها في السياسة والاجتماع والأمن… إلخ.

هذا ليس نفيًا للكيانات السياسية والعسكرية والمدنية، القائمة، ولا إعلانًا لفشلها، وإنما هو تعبير ناجم عن اعتقاد مفاده أن تلك الكيانات لم تنجح في المهمات التي أخذتها على عاتقها، أو التي نشأت من أجلها، إذ لا يوجد -حتى الآن- كيان معين يحظى بإجماع أغلبية السوريين، أو يقدم نفسه بوصفه يمثلهم، لا كيان حزبي ولا كيان جبهوي، كما لا يوجد أي كيان استطاع أن يطرح خطابات سياسية جمعية، يمكن أن تسهم في تشكيل هوية السوريين بوصفهم شعبًا، أو تعزز ثقتهم في مستقبلهم.

المشكلة أن الكيانات السياسية القائمة (وضمنها الائتلاف ومعظم الفصائل العسكرية الكبيرة)، لا تشتغل على أساس إدراك هذه المسائل، وأنها تتصرف بوصفها كيانات نهائية، ومغلفة، أو أنها تمثل الثورة والشعب، وذلك ليس في خطاباتها فحسب، وإنما في تصرفاتها، وفي رؤيتها لذاتها. ومشكلة هذه الكيانات، أيضًا، أنها لم تأت نتاجًا للكيانات السياسية السورية التي كانت موجودة قبل الثورة، أو نتاجًا لتطور التجربة الكيانية في الثورة، بقدر ما أنها جاءت نتيجة مداخلات خارجية، دولية وإقليمية وعربية، لذا فإن مشكلتها تكمن، أيضًا، في ارتهانها للخارج، وتبعيتها لأجندة الفاعلين الخارجيين، بدلًا من ارتهانها لأولويات وحاجات شعبها ومصالحه.

حاجة السوريين إلى كيان سياسي لا تنبع من عجز الكيانات القائمة عن تمثل كل ما ذكرناه فحسب، أو عن القيود والارتهانات الخارجية التي تحكم رؤاها وطرق عملها، وإنما تنبع، أيضًا، من ضعف فاعليتها، ومن عدم قدرتها على التطور، ومن تدني قدرتها على مواكبة التطورات في العملية الثورية السورية، وفوق كل ذلك؛ رفضها مراجعة مسارها وخطاباتها وطرق عملها التي أسهمت في تدهور الثورة السورية، وضمن ذلك الفجوة الحاصلة بينها وبين شعبها.

الفكرة هنا أيضًا لا تتعلق بهواية إنتاج كيانات بديلة، أو على مقاس أو مزاج هذا الشخص أو ذاك، أو هذه الجهة أو تلك، وإنما هي تتعلق بعمل شيء يفترض بالسوريين أن يعملوه لأنفسهم، لأنه لا يمكن لأحد أن يقوم بهذا العمل بدلًا عنهم.

الثورة السورية بحاجة إلى كيان سياسية جبهوي، يحاول ويجتهد ويدأب لضم كل أو معظم الكيانات السياسية الفاعلة للسوريين، كيان يتأسس على القبول والاحترام والاعتراف المتبادل، ويسعى لاستعادة الخطابات الأساسية للثورة السورية، في الحرية والمساواة والمواطنة والديمقراطية، بدون مواربة، وبما يقطع مع الخطابات الفئوية القاصرة والمضرة والأيديولوجية والطائفية التي لم تفد سوى في إضعاف الثورة، والفتّ في وحدة وتعاضد السوريين، وإثارة المخاوف لديهم من المستقبل المشترك.

الثورة السورية -أيضًا- بحاجة إلى كيان سياسي جبهوي يستنهض همم السوريين، ويستحوذ على ثقتهم، ويوقد الإلهام في قلوبهم، بإمكان صياغة إجماعات سياسية وهوياتية تقوم على المواطنة، والاستثمار في التعددية والتنوع بوصفهما عامليّ إثراء لشعب سورية.

الثورة السورية بحاجة إلى كيان سياسية جبهوي مستقل، يأخذ في حسبانه أولويات وحاجات ومصالح السوريين قبل أي دولة أخرى، كائنة من تكون، لأنه من دون ذلك ستبقى الثورة السورية مجالًا للتلاعب والتدخلات الخارجية، ولأن هذه الدول لا تشتغل كجمعيات خيرية، ولأن أي قيادة لا تشتغل وفقًا لمصالح شعبها، لن تلق أي احترام من أي دولة.

الثورة السورية بحاجة إلى كيان سياسي يقدم نفسه بديلًا حقيقيًا للنظام في تمثله للنزاهة والصدق، والروح الديمقراطية، وفي قبوله الاختلافات والمشتركات بين المكونات السياسية، باعتبارها أمرًا طبيعيًا ينبغي الاستثمار فيه والبناء عليه، لبناء سورية الجديدة.

هذا ما ينبغي أن يفعله السوريون في أماكن وجودهم كافة، بوصفه خطوة أولية، يمكن أن ينتج عنها خطوات أوسع وأشمل، وكلما جرى ذلك في وقت أبكر، وبصورة قويمة وحكيمة، كلما كان ذلك أفضل، تعبيرًا عن الوفاء لكل هذه التضحيات والعذابات التي عاناها هذا الشعب. هذا رهن بإرادة السوريين الأحرار والمخلصين، وليس بإرادة أي أحد أخر.




المصدر