الثقافة والمثقف
21 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
محمود الوهب
كثيرًا ما تسمع من هنا وهناك، وبخاصة ممن يرون أن الثورة فعل عسكري محض، سؤالًا، وربما عدة أسئلة عن دور المثقف في الثورة السورية، وإذا ما كانت الثورة قد قامت بفعل الثقافة، أو أنَّ للمثقفين دورًا فيها؟! أو أنها نتاج، في جانب ما من جوانبها، لجهد أو لوعي ما تكوَّنَ بفعل الثقافة أو المثقف، جهد لعبه المثقف السوري؟ أو وعي زرعه في النفوس والأذهان، وكان عاملًا -محركًا أو محرضًا- على الفعل الثوري؟! ثم يأتيك بسؤال غريب عجيب، يضمِّنه ألف لغم، وألف غمز من قناة المثقف؛ إذ تجده يسأل بالبلاهة كلها: أين تراها تكمن مهمة المثقف السوري، في ظل هذه الحرب الطاحنة في البلاد، وكيف سيكون مستقبل الإقبال الاجتماعي على المثقف عند السوريين؟ وما أبرز مهماته لاستعادة هيبته التي أثر في وجودها صوت السلاح؟!
وهنا تتمالك أعصابك التي ارتفع توترها، لدى سماعك عبارة: “استعادة هيبته” إلى درجة قد لا يفيد الحديث فيها، فالأسئلة خارجة عن رؤية عميقة للواقع القائم في المجتمع السوري كليًا، واقع يحكمه الاستبداد المعادي للثقافة -أصلًا- ولقيمها ومفهوماتها، وأربابها، إدراكًا منه لما تفعله الثقافة في العقول والأذهان. فالمستبد يدرك -تمامًا- أن الثقافة، إنما هي فعل ذهني وفعل روحي يهيئان لأي فعل مادي ملموس، يقوم به الإنسان عبر تاريخه واستوائه المتنامي. فالثقافة -في هذا الجانب أو هذه الزاوية- تسبق الفعل المادي، صحيح أنها تتمازج معه عبر صيرورته، فتأخذ من نتائجه وتعمل على تقييمها ليتحقق العمل ويستقيم، كما يرضي صاحبه، ويخدم الغاية المرجوة منه! وتكوِّن إضافات لها لتنفصل من جديد، وهكذا. لا أريد الدخول -هنا- في الجانب الفلسفي حول أسبقية المادة على الوعي، أو العكس. فما أريد توضيحه -هنا- هو حال الثقافة السورية، وأهمية دور الثقافة والمثقف التي لا ترى فيها السلطات المستبدة غير عدو رئيس لدود…!
من يعود إلى عبد الرحمن الكواكبي، في طبائع الاستبداد، يجد تشريحًا واسعًا وعميقًا في هذا المجال، ولم يكن تعبير الثقافة أو مصطلحها دارجًا أيامه، كذلك لم يكن لها وزارة أو مؤسسة ترعاها، لكن الكواكبي رآها في ميادينها الفعلية، فعالج هذا الأمر من زاوية نظرة المستبد إلى العلم، والتربية والتعليم، والدين… وسوى ذلك، وفصل فيها كثيرًا… إلخ. المستبد يختار من الثقافة ما لا يشكل عليه خطرًا؛ أي ما لا يحرك الأذهان، ولا يثير النفوس تجاه ما يقوم به من سطو وسيطرة على الناس وأموالهم، فترى إلى جلاوزته يقعون، من يقظة خوف، وحذر، في غباء مضحك، وجهل مطبق، وهم يتتبعون حركة الناس وسكناتهم، وبخاصة ما يتلفظون به في مجالسهم، وتجمعاتهم. ويحضرني هنا تعريف الثقافة الذي كان سائدًا، في سورية، على لسان “مثقفها الأول”، وأعني به حافظ الأسد الذي تجد عبارته الشهيرة عن الثقافة تتصدر قاعات وزارة الثقافة، ومديرياتها، ومراكزها الثقافية، وبعض المطبوعات التي تشرف عليها في المدن السورية كلها. تقول العبارة:
“إن الثقافة هي الحاجة العليا للبشرية”
لا حظوا هنا هذا التعريف الضبابي، هذا التعريف الذي يجعل من الثقافة حلمًا بعيد المنال، حلمًا لا علاقة له بواقع الحياة والإنسان… وكيف فصَلَ المستبد بين الثقافة وفعلها اليومي الأهم، فعلها في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والإداري أيضًا، فصل الثقافة عن موضوعاتها الرئيسة، فالثقافة فعل يومي لها مساس بكل سبل نشاطنا المادي، بوصفنا مجتمعًا وأمة ووطنًا. لقد أحال المستبد الثقافة إلى مجرد أيقونة للنظر والتمتع، إنها حلم يسعى إليه الإنسان ولا يطوله، وربما هي الفعل الذي لا يأتي إلا بإرادة المستبد وحكمته وبتوجيهه المثقفين في هذا المنحى أو ذاك، يعني في امتلاك عقولهم. الثقافة في تعريف المستبد هي جنة بعيدة المنال، جنة وجودها في السماوات العلا. وقد لا يكون الوصول إليها إلا عبر الشيخ والحزام الناسف.
لا يا سادة ليست الثقافة هكذا، الثقافة قراءة دقيقة في واقع الإنسان، وحلم في حياة أجمل وأفضل، وممارسة جدية عبر من يمتلك وسائل التغيير لتحقيق الحلم، ومنْ ثَمَّ الانتقال إلى حلم آخر يقوم على الأول ويتجاوزه. حلم يرسمه المثقف المتمكن من أدواته وحريته. وهنا أجدني مضطرًا لتعريف المثقف:
المثقف، كما أراه، هو ذاك الذي يدرك بعمق ما يدور حوله، إن على الصعيد المجتمعي/ الوطني أو على الصعيد الإنساني العام. وهو المتطلع، بأدواته، على الدوام نحو مستقبل تسوده قيم الحق والخير والجمال. وبهذا المفهوم أستطيع القول إن الغالبية العظمى من المثقفين السوريين قد لعبوا -قبل العام 2011- دورًا توعويًا بهذا القدر أو ذاك. لكن تأثير هذا الأمر وظهوره للعيان مرتبط بأمرين اثنين، أولهما:
أن تكون الشرائح المجتمعية المعنية بالتغيير على استعداد لملاقاة رؤية المثقف وتلقفها، أعني المستوى الاجتماعي من تعليم، ووقت فراغ، وتعاط مع الشأن السياسي العام، فالتغيير العملي، في النهاية، هو شأن سياسي لا ثقافي. هو شأن السياسي الذي يتلاقى مع المثقف في طموحاته وأمانيه، أما المثقف، فهو منوِّر ومحرّض على الفعل. ومن هنا تأتي أهمية المناخ العام الذي يسمح للمثقف ولغيره بالكشف عن وجهة نظره وإيصالها.
إنَّ المثقف موجود على الدوام، ودائمًا يجد الوسيلة لقول كلمته، ورأيه. لكن المناخ غالبًا ما يكون غائبًا. فمثل هذا المناخ في الواقع السياسي قبل العام 2011، لم يكن متوفرًا. ليس قليلًا ما قيل وما كُتب منذ سبعينيات القرن الماضي وإلى الآن، ففي الفكر قرأنا كتاب نقد الهزيمة للراحل صادق جلال العظم، وكذلك ما كتبه طيب تيزيني من مقالات حول الفساد (ثلاثية الفساد)، وحول تغلغل الأجهزة الأمنية “الدولة الأمنية”، أما في المسرح والشعر فما قدمه كل من سعد الله ونوس ونزار قباني كاف ويزيد. لقد حفظ الناس له قصائد كثيرة، منها: “هوامش على دفتر النكسة، وعنترة” كما حفظوا مقولات ومشاهد مسرحية، لسعد الله، مقتطفة من: “حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران” والملك هو الملك” وغيرهما، وهنا أجيء بأسماء من الذاكرة، تحضرني الآن، فلا عتب إذ هي في الواقع العملي أكثر من ذلك بكثير. وقد عاش نزار مبعدًا عن وطنه، وتوفي سعد بالسرطان.
أذكر -على سبيل المثال- أنَّ مسرحية “الملك هو الملك” لسعد الله ونوس عُرضت على مسرح الحمراء ليومين فقط، ثمَّ منعت، كان ذلك أوائل السبعينيات، كما تراجع المسرح، وتراجعت معه السينما؛ هذان الفنان اللذان يمكن لهما أن يلعبا دورًا أكبر في حياة الناس، إذ يعوَّل عليهما في إنارة العقول وشحذ الهمم، وخدمة حركة الحياة وقيمها، غابا وبقي مقصِّ الرقيب وعينه على ما تبقى منهما، وفي الصحافة والوسائل الثقافية الأخرى. إذن؛ يمكنني القول: إنَّ المثقف حاضر وله هيبته ومكانته!
أما بعد العام 2011، فقد تباينت آراء المثقفين ومواقفهم، فمنهم من وقف إلى جانب الحراك الشعبي، وكان راغبًا في التغيير، فكتب ورسم وغنى ومثَّل، وهم كثر، ويعوَّل عليهم، وبعضهم عانى سجون الاستبداد واضطهاده. وظهرت كتابات كثيرة، وأغان، وأفلام تسجيلية تنتصر للشعب وتدين الاستبداد لكنَّ ظاهرة القمع الوحشي، من جهة، وعسكرة الحراك السلمي، وظهور التطرف الديني والإسلام السياسي، والتجييش الطائفي، من جهة أخرى، جعلت بعضهم يتريث. ومن منا لا يذكر أغنية سميح شقير “يا حيف” التي هزت وجدان الشارع الشعبي مستندة إلى تراث وطني وشعبي وإنساني. المثقف موجود دائمًا، لكن لا اللسان ولا القلم ولا ريشة الفنان لديها القدرة على الوقوف في وجه البندقية التي لا يلجمها غير الخراب والدم وقد حصل بما يكفي وطاف…!
[sociallocker] [/sociallocker]