ابن العلقمي ديمستورا


أسامة الملوحي

منذ استلامه منصبه مبعوثًا خاصًا للأمم المتحدة إلى سورية، لم يكن في ذهن ستيفان ديمستورا سوى حلب، ولم يطرح خطة إلا عن حلب، ولم يبحث مع النظام ومع المعارضة إلا موضوع حلب، حتى ظنّ كثيرون أنه مبعوث الأمم المتحدة بشأن حلب، وليس بشأن سورية ككل، ويبدو أنهم قد أصابوا في ظنّهم، بل قد جاوز الواقع ما ظنّوه.

جاء ديمستورا ليُسلِّم حلب، وليصنع لها سقوطًا يُشابه سقوط بغداد بأيدي المغول، ولتكون مع السقوط مرارة وقتامة وتلبُّس للهزيمة، يصل إلى “انهيار” كامل للثورة السورية.

في البداية، طرح ديمستورا “خطة تجميد القتال في حلب”، وتعامل النظام معها فورًا بتجاوب وفاعلية وسرعة، وأرسل وليد المعلم بعثة من مكتبه مع ديمستورا إلى حلب؛ لدراسة المبادرة ميدانيًا بما يجاوز الموافقة.

قدم ديمستورا مبادرته أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2014، وخلال ثلاثة أشهر أوصل المبادرة إلى تفاصيل إجرائية وميدانية كاملة، وإلى حد يُثير العجب، وقدّم إلى مجلس الأمن في 17 شباط/ فبراير، ما أسماه بـ “خطة التحرك” التي تضمنت تفصيلات وشروحات لم تخطر على بال كل أعضاء مجلس الأمن، وتناولت الخطة وقف القتال في حي صلاح الدين، يتبعه حي سيف الدولة مرحلةً أولية، وإعطاء أدوار مُحدّدة ومحدودة لفصائل المعارضة، بما لا يتعدى ما حصل في بلدات ريف دمشق من هدن محلية هشّة يسهُل التملّص منها، وتُسهِّل عودة النظام عن طريق ما يسمى “مؤسسات الدولة” التي يُرسل النظام عن طريقها، ما يريد من شبيحة ورجال مخابرات، بلباس الشرطة و المرور والدفاع المدني وسائر الموظفين، من أعلى المراتب إلى عمال النظافة.

أخذ ديمستورا بأنموذج المصالحات المناطقية المحلية، الذي اتَّبعه ونجح فيه نظام بشار الأسد، فجمَّد النظام المناطق الثورية، وعزل بعضها عن بعض، وتسلل إليها من خلال “مؤسسات الدولة”، وكل ما فعله ديمستورا هو توسيع هذا الأنموذج وإعطائه الشرعية الأممية، بعيدًا عن أي حل شامل، وبعيدًا عن أي كلام عن تغيير النظام ومصير بشار الأسد.

كان رفض مبادرة ديمستورا من المرات القليلة التي أجمعت عليه القوى الثورية والعسكرية في محافظة حلب، على الرغم من أنه حاول إقناع كل القوى والأطراف، أو جرِّ جزءٍ منها إلى الانخراط فيها؛ لخلق ما يسمى بالتباين، ثم الصراع، الذي يُفضي مع ضغط المدنيين إلى مشاركة بعض القوى وعزل قوىً أخرى، في مرحلة أولية جزئية يكون لها ما بعدها، وديمستورا -أصلًا- لم يأت إلا لتجزئة الحل في المسألة السورية وتقطيعه.

حاول ديمستورا أن يُسوِّق لمبادرته علنًا، جهارًا نهارًا، واجتمع مع كل الأطراف الإقليمية والدولية التي يمكن أن تؤثر وتضغط، واشتغل -في الوقت نفسه- سرًا لتحقيق مبادرته؛ فرتَّب خلف الأضواء ووراء الأبواب المغلقة، واستعان على ذلك بأصدقائه المقربين؛ للوصول إلى كل الجماعات والفصائل في الداخل السوري، وكان أنشطهم، سلمان الشيخ، الصديق المقرب من ديمستورا، وهو بريطاني باكستاني، يعمل تحت غطاء أحد معاهد الدراسات، لإمداد جهات استخبارية وسياسية عدة بالمعلومات والدراسات.

قام سلمان الشيخ بعقد اجتماعات دورية عديدة، في أماكن مختلفة من العالم، واستطاع أن يجمع عدَّة مرات، عبر وسطاء، كل الفصائل والمجموعات الثورية والعسكرية والسياسية في مؤتمرات مغلقة، كان المُعلن فيها النقاش والحوار؛ للوصول إلى مقاربات ورؤى مشتركة عن الوضع السوري الراهن، والوضع السوري المستقبلي المقبل، وكان يحرص الشيخ على أن يُبلِّغ الحاضرين في أول جلسة بأن الاجتماعات سريّة، ولن يُعلن عنها، ولا عمّا يقال فيها شيئًا.

وجرت مناقشات مُكثفة كثيرة، كان فيها سلمان الشيخ، مُستمعًا جيدًا، ورافقه دائمًا خبير متخصص في قراءة لغة ما بين السطور، ولغة ما خلف الكلمات والتعبيرات للحاضرين؛ ليجري سبرهم وتصنيفهم، واصطدم سلمان في معظم الاجتماعات التي حضرها مندوبو الفصائل الثورية والعسكرية بلغة واحدة، تكلمت عن نفاق إدارة أوباما تجاه الثورة السورية، وأن هناك تفاهمًا وتعاونًا استراتيجيين بين الإدارة الأميركية وإيران، وشكّك الجميع في حيادية ديمستورا، وشككوا في إيجابية دوره تجاه الشعب السوري المُطالب بالحريات…وكان موضوع حلب ومبادرة ديمستورا حاضرة دائما بقوة في هذه الاجتماعات، ولكنها لم تُفض علنًا لتحقيق أي اختراق.

لقد عمل ديمستورا بدأب وفرادة؛ لإنجاح مبادرته سرًا وعلنًا، وسجّل أعلى معدل نشاط لمبعوث أممي إلى المنطقة خلال سنوات الربيع العربي، ولكنه لم ينجح، ويبدو أنه عندما أيقن بالفشل، أوصى بالضغط العسكري على المعارضة في حلب؛ لحل المسألة، يبدو أنه قد قدّم توصياته بذلك لبشار وللروس وللإيرانيين.

وبعد التفرغ الروسي لقصف حلب منذ عدة أشهر، استطاع الإيرانيون وبقايا جيش بشار، أن يقطعوا طريق الكاستيلو، وأن يُطبّقوا الحصار على حلب، وتمكنوا من إشاعة جو الهزيمة المطلوب؛ ليُطرح مشروع ديمستورا بصيغة اتفاق روسي – أميركي كاد أن يُعلَن.

لكن معارك الراموسة والكليات الحربية وفتح الحصار من الجنوب الغربي عطّل الأمر ونسف ذكره، وكان لابد من الضغط العسكري -مرة أخرى- باتفاق أميركي – روسي لإيقاف التوسع باتجاه حلب الغربية، وشاركت الولايات المتحدة -فعلًا- مع روسيا في القصف “الجراحي” في آخر عشرين ساعة، قبل انسحاب المقاتلين من الكليات، وغلق الثغرة التي فكت الحصار، وأكد المشاركة الأميركية المباشرة أكثر من مسؤول عسكري كبير في الفصائل المشاركة في المعركة.

وبعد ذلك مباشرة، عاد الحديث -مرة أخرى- إلى قرب الوصول إلى اتفاق أميركي -روسي بشأن حلب، ولم يكن ديمستورا غائبًا عن المشهد أبدًا.

وحصل هجوم بريّ آخر للثوار من غرب حلب، كاد يصل إلى الحمدانية، وكاد يخرق الحصار مرة أخرى، ولكن حجم القصف ونوعيته أجبرت المقاتلين على الانسحاب.

بعدئذ كان لابد من وسيلة عسكرية أخرى ضد الثوار، لا تخص نوع السلاح المستخدم، فلم يكن هناك -أصلًا- نوع جديد لم يُجرب، فتوجهوا في جولة مسعورة من القصف الجوي والأرضي ضد المدنيين، وعلموا أن معاناة المدنيين الشديدة ستفتح الباب إلى أجواء الهزيمة والاستسلام.

ساعد ديمستورا كثيرًا في الجولة العسكرية الأخيرة التي قادتها روسيا جوًا وإيران برًا في الشهرين الأخيرين، كان له دور بالتحريض العلني للقبول باجتياح حلب بمدنييها ومقاتليها، عندما أعلن بغرابة أن نصف المقاتلين في حلب هم من جبهة “فتح الشام”، وكان في ذلك رسالة لأميركا وأوروبا؛ لتترك كل التحفظات بشأن الخيار العسكري الروسي – الإيراني، ثم راح يتخبط في تقدير الأعداد، فذكر خمسة آلاف مقاتل لـ “فتح الشام”، ثم ذكر رقم 900، ولم يكن عددهم في الحقيقة يتجاوز المئتي مقاتل.

كذلك روّج -بقوة- لموضوع خروج المقاتلين من حلب، وعندما جلس مندوبو أكبر الفصائل مع الروس في أنقرة، واستجابوا لشرط خروج مقاتلي “فتح الشام” من المدينة، ووافقوا على إخراجهم بالقوة إن رفضوا، غيّرت روسيا على الفور، وقالت بأنها تريد حلب فارغة تمامًا، وأن العمليات ستستمر.

يبدو أن ديمستورا كان متابعًا وقريبًا من مواقع القرار في روسيا وإيران ودمشق، وأعلن نيابة عن الجميع أن الوضع سينتهي بالحسم العسكري الكامل قبل نهاية السنة.

ابن العلقمي سلّم بغداد للمغول، وسُجل في التاريخ متآمرًا؛ لأنه كان وزيرًا مستشارًا للخليفة، وأقنعه بتخفيض التجهيز العسكري والإعداد على مدى شهور طويلة، ثم أقنعه بالاستسلام وتسليم بغداد لمّا وصل المغول إلى أسوارها، وعُدّ ابن العلقمي خائنًا؛ لأنه اتصل بالمغول، ومهّد لهم، وسلّمهم بغداد بلا مقاومة تُذكر.

وديمستورا سلّم حلب، وسيُسجَّل في التاريخ متآمرًا خائنًا، إذ تآمر مع مغول العصر من الميليشيات الطائفية وميليشيات النظام وسلمهم حلب، وكان مبعوثًا خاصًا ومُمثلًا للأمم المتحدة، فخان مبادئها، وخرج عن حياديتها وأهدافها المُعلنة في حفظ السلم والأمن الدوليين، وأطلق رصاصة الرحمة على دور الأمم المتحدة في التوسط بين الشعوب والفرقاء لإحلال السلام ونصرة المستضعفين، وهو يمهّد -الآن- لمرحلة مشابهة في إدلب، وقد أشار -فعلًا- إلى أن المعارك المقبلة ستكون في إدلب.

يبدو أن ديمستورا قد اكتشف السلاح الفعّال لإجبار الثوار السوريين على الاستسلام، وأوصى به، ألا وهو قصف وإبادة الأهداف السهلة، وهم المدنيون العُزّل الذين يكتظون في مناطق الصراع، واكتشف أن إبادتهم أسهل طريق للحل، وأسرع السبل لإنجاز مهمات الأمم المتحدة.




المصدر