تدمير حلب والهندسة الاجتماعية الأسدية


ميخائيل سعد

تدمير حلب القديمة هو الحلقة الأكثر أهمية في سلسلة تدمير الحواضر السورية التي اعتمدها نظام الأسدين منذ تدمير أحياء حماه القديمة عام 82، مرورًا بتدمير حمص القديمة ودرعا البلد. ليس مهمًا كثيرًا من قام بفعل التدمير؛ آلته العسكرية أم تلك المستدعاة، من الخارج، للقيام بذلك، المهم أن هذا التدمير الواسع “سيتسبب في إعادة رسم الهندسة الاجتماعية للطبقات والجماعات والأرياف والمدن”، والذي هو جوهر سياسة الأسد الأب، وتبعه بها الابن، كما عبّر أحد الأصدقاء، الذي زار بعض الأحياء الحلبية القديمة بعد أن جرى تهجير سكانها بمباركة أممية، فوجدها خالية من السكان، منهوبة، لا خدمات فيها، وقد خُرّبت البنية التحتية من شبكة صرف صحي ومياه وكهرباء.

لماذا؟

يجيب عن هذا التساؤل جزئيًا الأدب؛ ففي روايته “مديح الكراهية” يُعرّفنا خالد خليفة على بعض أحياء حلب القديمة التي تُشكّل متاهة، حيث يسكن بعض أبطال الرواية وبطلاتها، مختصرًا ومكثفًا، على لسان إحدى بطلات الرواية، خوف رجال المخابرات من المدينة، عندما تقول لنفسها في أثناء التحقيق معها “إنهم لا يعرفون أسرار بيوتنا، ولا مداخل المدينة”؛ ما يجعل هذه الأحياء منطقة آمنة لأعداء الحكومة “الاشتراكية”. من أجل ذلك كانت سياسة الأسدين تدمير المدن القديمة وتهجير سكانها. فالسلطة الاستبدادية لا تسمح بوجود أسرار للبيوت لا يمكن الوصول إليها، كما أنها لا تقبل أن يكون للمدينة أبواب مجهولة لا تعرفها، لذلك، فأسهل ما يمكن عمله هو استخدام الطائرات والبراميل المتفجرة والقنابل الفراغية والحرائق، لتسهيل اقتحامها، بعد تفريغها ممن بقي حيًا من سكانها.

العمل الذي لم ينجزه حافظ الأسد، أكمله ابنه. فحافظ لم يكن بحاجة للتدمير الشامل للحواضر القديمة، لأنه استطاع الوصول إلى من يريد الوصول إليهم باستخدامه أساليب وحشية في الترهيب، ووصل، عبر بعض الترغيب، إلى ما يريد في حلب ودمشق، أما حماه، فقد أراد الأسد الأب أن يجعل من تدمير الأحياء القديمة وعدد القتلى، درسًا لكل سورية والسوريين؛ ممن يفكّرون يومًا بعصيان الأسد والثورة على حكمه.

أحد الأدباء السوريين كتب منشورًا فيسبوكيًا يتساءل فيه: “حتى اللحظة لم أستطع أن أفهم لماذا يُصرّ العالم على تهجير أبناء حلب؟ الكل يريد تهجيرهم مع أن (جبهة النصرة) هربت مع أول دفعة من الباصات من حلب”.

بات من الواضح، بعد ست سنوات من الثورة، أن “جبهة النصرة” و”داعش” لم يكونا إلا كما كان “قميص عثمان”، سببًا لقتل ثورة السوريين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى مُبررًا لتدمير الحاضنة الاجتماعية للثورة، وتكّسير كل الروابط الاجتماعية والعائلية التي تكوّنت عبر أجيال، والتي حوّلت الأحياء القديمة إلى حصون صعبة الاختراق، ولما كان ذلك لا يمكن أن يتم دون هدم هذه الأحياء أولًا ومن ثم تهجير سكانها، فقد حدث ذلك بالصدفة أو نتيجة خطط مسبقة.

كانت سياسة حافظ الأسد، منذ أن وصل إلى السلطة عام 1970، التي مازالت مستمرة حتى الآن: على كل سوري أن يكون وحيدًا؛ كي يسهل كسره، ومنع سوريين اثنين من أن يلتقيا دون علم أجهزته، ولتحقيق ذلك لا بدّ من تجريف هذه الأحياء كلها، وإعادة بنائها من جديد، بحيث تكون أبواب كل “شققها” معروفة وسهلة العبور أمام رجال الأمن، ومنع أي “سلفية” من الحلم أن تكون أبواب مدينتها غير معروفة من الأمن، كما ورد في رواية خالد خليفة. وقد لا ينجو من عملية “الإعدام” تلك إلا بعض المواقع الدينية، كالجوامع المشهورة، ليس حرصًا على الإيمان، وإنما كي تتاجر بها سلطة بشار الأسد، ولدفع تهمة “الطائفية” عنها، كما فسّر أحد الأصدقاء.

أتاحت لي الأحوال أن أزور كثيرًا من المعالم التاريخية الأثرية في إسطنبول، والتي يتجاوز عمر بعضها آلاف السنين، ورأيت كيف يحرص الأتراك على تلك الآثار، ورأيت عملية تسهيل الخدمات للسواح لزيارتها، ليس من أجل ما تدرّه من أموال فحسب، وإنما -أيضًا- لما تعنيه من قيمة معنوية عند التركي، تجعله يشعر بالفخر لكونه تركيًا. كما زرت بعض المدن الأوروبية ورأيت حرص الحكومات والبلديات على العناية بأصغر أثر من آثارها، حتى لو كان حجرًا، كما في باريس، حيث يُشاهد الزائر في بعض المناطق حجرًا يحمل لوحة تشرح لماذا هذا الحجر هنا، وما هو البناء الذي كان قائمًا في المكان في يوم ما، محاطًا بشبك حديد لحمايته. أما عن المدن السويسرية الصغيرة والكبيرة فحدث ولا حرج، لدرجة تشعر بالغيرة من بركة ماء، كانت قبل مئات السنين، مكانًا لشرب الحيوانات، أو مغسلًا لثياب الفلاحين في هذه القرية أو ذلك الحي، ولا زالت تلقى كل العناية والحرص كي تستمر.

في ثمانينات القرن الماضي قرأت تعليقًا طريفًا كتبه أحد الصحافيين اللبنانيين عن وفد لبناني رسمي زار الولايات المتحدة الأميركية، فجرى تكريم الوفد باصطحابه في جولة سياحية لزيارة بعض المواقع الأثرية، وكان أقدم أثر تمت زيارته كنسية، كان الدليل السياحي حريصًا على إظهار مدى فخر الأميركيين بهذا الأثر القديم الذي عمره 200 عام. كتب الصحافي نقلًا عن الزائر قوله: عندما رأيت الكنيسة وعمرها، قلت للدليل السياحي: بيت جدي بالضيعة عمره أكثر من 200 سنة، وهو لا يزال مسكونًا، ولكن لا أحد يعدّه قيمة أثرية تجب المحافظة عليها.

أوردت هذه الأمثلة للتدليل على أهمية الأبنية التاريخية، سواء أكانت مواقع معينة، أو أحياء كاملة، أو مدنًا كحلب، وكيف تنظر حكومات العالم إليها، ومقارنة ذلك مع سلوك الأسديين الذين هدموا آثارًا عمرها آلاف السنوات، وما لم يستطيعوا الوصل إليه قام (داعش) بتفجيره أو نهبه وبيعه في الأسواق العالمية.

لم أكتب هذا من أجل تفضيل الحجر على البشر، وإنما للتذكير، ونحن على أبواب مرحلة جديدة بعد حلب، بأن الأسد كان قد حدد أهدافه ورسم استراتيجيته من بداية الثورة، عندما أطلق شعاره المشهور “الأسد أو نحرق البلد”، وهو ما زال أمينا لذلك الشعار، فما نحن فاعلون؟!




المصدر