سوريا أمْ سوريا.. ليِّة ؟


فرج بيرقدار

في السنوات الأولى من الاعتقال، لم يكن لدينا أقلام ولا أوراق، ولهذا رحت أدرِّب ذاكرتي للكتابة عليها بشكل مباشر. أعني على طريقة أجدادنا القدامى قبل انتشار الكتابة؟!

في بداية الاعتقال أعطونا بدلًا من أسمائنا أرقامًا.

حين يعامل السجين بوصفه رقمًا، وحين يطغى الرماديّ على الزمان والمكان في نسق جهنمي مطفأ وبارد وملول، تأخذ الأشياء أبعادًا مختلفة، ويغدو البحث عن الذات والقبض عليها داخل الزمن، مسألة وجود أو لا وجود.

بعد إحدى جولات التحقيق المجنونة، نقلوني إلى قسم العناية المشدَّدة في مشفى حرستا العسكري بدمشق. يومها اضطروا، لكي أدخل المشفى، أن يعطوني اسمًا مستعارًا: سيف أحمد.

لن تصدقوا كم كانت فرحتي كبيرة بهذا الاسم. كان يكفيني أنه ليس رقمًا.. ولكن تلك الفرحة تبخَّرت عندما وضعوني على الحمّالة وأدخلوني إلى إحدى الغرف.

رحتُ أفكّر أني لو متُّ في هذا المشفى، فلن يكون في قيوده أو سجلاته أي شيء حقيقي يدل عليّ!

ما إن همست للطبيب، الذي يفحصني، باسمي الحقيقي وبأني سجين سياسي، حتى تدخّل عناصر الدورية لإسكاتي وإنذار الطبيب.

حين كان سجان ما، يسألني: من أنت؟ كنت أقدم له اسمي بتلقائية. لم أكن أعرف أن إعلان اسمي الحقيقي مخالفة لقوانين السجن وتستوجب العقاب. ولكن مع مرور الزمن وتوالي الصفعات والشتائم والكرابيج، تعلّمت أن أقدم نفسي باسم السجين رقم (13).

كان لا بد من الشِّعر كي أعرِف نفسي، وأحميها، وأوازنها فوق صراطها الممتد ما بين اللعنة والقداسة.. ثمّ شيئًا فشيئًا بدأت أدرك أن الشِّعر بالنسبة إليّ، هو طائر الحرية الأجمل.. هو التمرين الأقصى على الحرية، وبصيغة أخرى هو ما ليس قابلًا للأسر. حرّرتُه في داخلي، فحرَّرني داخليًا مما يحيط بي من جدران وأنفاق وجنازير وأقفال.

قبل الاعتقال كانت حرية الإبداع هاجسًا، أما بعده فيصبح إبداع الحرية هو الهاجس.

كتبتُ خلال أربعة عشر عامًا ست مخطوطات شعرية ومخطوطة عن تجربة السجن في أهم محطاتها.

السجن محاولة حثيثة لإلغاء معنى السجين، بل لإلغاء المعنى بإطلاق، ولهذا كنت عميق القناعة بأن إبداع أو خلق أي معنى (عبر الكتابة أو الفن أو حتى الثرثرة) إنما هو شكل من أشكال مواجهة السجن ومفاعيله.

استطعنا في سجن تدمر أن نخترع حبرًا بعد تجارب كثيرة مع تخمير أوراق البصل والشاي والبطاطا إلخ، واستطعنا العثور على قطعة معدنية صغيرة “تنك” وجدناها في أرض الباحة، فصنعنا منها رأس قلم ربطناه إلى قطعة خشب صغيرة وبدأنا نكتب على أوراق الغلاف الداخلي لعلب السجائر بعد فصل القصدير عن الورق. لاحقًا في سجن صيدنايا توفرت لنا الأقلام والأوراق وصارت المشكلة هي كيفية تهريب ما نكتب. كنا مثلًا نأخذ قطعة خشب صغيرة، نحفر في منتصفها مربعًا صغيرًا نضع فيه عددًا من أوراق السجائر التي تضم كتاباتنا، ثم نغلق المربع بقطعة خشب بقياس الفتحة ونحفّ القطعة الخشبية على الحائط إلى أن يغدو سطحها أملس، فنرسم عليها منظرًا طبيعيًا أو زخرفة ما ونقدمها خلال الزيارات كهدايا لأطفالنا.

لو كنت سياسيًا فقط، لكان يمكن أن أنهزم.. غير أن الشِّعر استطاع أن ينقذني، ويعطي حياتي في السجن معنى مختلفًا وقيمة مختلفة عما يرُاد.

ما من شيء يستطيع أن يشدَّ القوس بي إلى النهاية أكثر مما يفعل الشعر.

في التكثيف الأخير.. يبقى السجن سؤال الحرية الأول، وبالتالي حضورها الأقصى، وإن كان مطروحًا من موقع النفي.

لا أعني السجن بوصفه مكانًا، وإنما، قبل هذا وبعده، بوصفه زمنًا حجريًا عاطلًا ودنسًا وغير أخلاقي.. وفي المحصلة حليفًا للموت.

ثمة قراءات متعددة للسجن، ولكن مهما تعدَّدت تلك القراءات، فإن من حقها وواجبها، جميعًا ومن دون استثناء، أن تحيل إلى مرجعية واحدة وحيدة… هي الحرية، أعني الحياة.

بعد نقلنا من سجن فرع فلسطين إلى سجن تدمر ساءت الأمور أكثر. التعذيب في سجن تدمر يومي منظَّم. تعذيب انتقامي لا ينتظر اعترافات أو معلومات إضافية.

ما يسمونه “التنفس” في باحات سجن تدمر هو في الحقيقة قطع أنفاس.

سجن تدمر صحراء تشهق رملًا، ولا تزفر سرابًا. وفوق ذلك شهدنا هناك خلال عام واحد ثلاثة تسمّمات جماعية بسبب فساد الطعام. أما الباحات الأخرى التي تضم الأخوان المسلمين وبعث العراق وبعض التهم المتفرقة، فقد كانت حالها أقسى وأكثر بؤسًا وخطورة وتراجيدية.. حال لم ينذر بها من قبلُ نبيّ  ولا كِتاب.

في سجن تدمر كنا معزولين تمامًا عن العالم الخارجي (لا زيارات ولا صحف ولا راديو ولا أوراق ولا أقلام ولا ملاعق ولا طعام إلا في الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة. هناك أعدنا اكتشاف الأشياء والأدوات واللعنات الأولى، التي اكتشفها إنسان ما قبل التاريخ، بدءًا من استخدام القشّ كإبرة، واستخدام العظام كسكين، مرورًا بتصنيع الخيوط والأمراس والحقائب من أكياس النايلون التي يُحضرون بها الخبز، وصولًا إلى اكتشاف الألوان والخمر والخلّ والذاكرة والجوع والخوف والنسيان.

حين قررت السلطات، تحت ضغط دولي، نقلَ مجموعتنا من سجن تدمر في الصحراء إلى سجن صيدنايا العسكري قرب دمشق، وبعد فترة من العزل والتأديب، ألحقونا بجناح معظم مهاجعه من معتقلي حزب الإخوان المسلمين. كان بين من استقبلونا طفل أو شاب صغير. بعد حديث قصير عرفنا أنه اعتُقِل وهو دون السنّ القانونية. لاحظ الشاب استغرابي وربما عدم تصديقي، فضحك ملء شبابه أو طفولته: ثم قال:

بسيطة.. لا تزال جديدًا في جناحنا. غدًا سأعرِّفك على أعداد لا تتخيَّلها في هذا الجناح، وجميعهم اعتقلوا دون السنّ القانونية.

في الحقيقة ذهبت ذاكرتي إلى أطفال كثر ولدتهنَّ أمهاتهنَّ داخل سجون الأسد.

قلت لنفسي: لا بدّ إذن أن اسم سوريا مشتقٌّ من السوريالية.

السجون السورية، وإذا شئنا الدقة، سجون الأسد في سوريا، أبعد وأقسى وأفظع مما تتخيّلون. يكفي الآن أن نستذكر ال 55 ألف صورة عن ال 11 ألف سجين الذين وثّق الضابط المنشقّ “سيزار” صور موتهم تحت التعذيب، وما من جهة عالمية رسمية أو مختصّة نفت ذلك.

إسمحوا لي أخيرًا بالقول: إنني لا أتلاعب بالألفاظ حين أقول إن السائد في سوريا، منذ انقلاب الأسد الأب على الأقلّ، هو قانون القوة لا قوة القانون.

لا تُضِلُّني التصريحات الإعلامية لزعماء العالم الذين أعلنوا مرارًا أن نظام الأسد فقد شرعيته، في حين كانوا يباركون عمليًا شرعيته كممثل وحيد لسوريا في هيئة الأمم المتحدة.

وحديث البعض عن علمانية النظام يثير السخرية. كأنهم لا يعرفون أن الأسد حليف الدولة الإسلامية الإيرانية “العلمانية”، وحليف حزب الله اللبناني الشيعي الإيراني “العلماني”، وغير ذلك الكثير من الفصائل الشيعية العراقية والأفغانية والباكستانية “العلمانية” أيضًا!

نظام الأسد يكذب في كل شيء، وهو مستعد لاتهام خصومه بنقيض ما هم عليه.

اتهمني نظام الأسد في محكمته “محكمة أمن لدولة” بأني ضد أهداف الحزب الحاكم المتمثّلة بالوحدة والحرية والاشتراكية، وقد قلت لرئيس المحكمة ساخرًا: نعم أنا ضد الوحدة العربية لأني عربي، وضد الحرية لأني مدمن سجون، وبصراحة ضد الاشتراكية لأني شيوعي.

لقد (باركتني) بلادي بسياط لا يحصي عددها إلا الله. عدد السياط التي

تلقيتها يكاد يعادل عدد الكلمات التي كتبتها. هل تصدِّقون ذلك؟!

أنا نفسي لا أكاد أصدِّق نفسي.

* مداخلة فرج بيرقدار في مؤتمر “توثيق الظلام” الذي أقامته مؤسسة إيتانا وأمم للتوثيق والأبحاث وقسم الحماية الإنسانية في وزارة الخارجية السويسرية في Gerzensee مدينة بيرن السويسرية يومي 13 و 14 كانون الأول 2016.




المصدر