هذه اللغة العربية “المحنّطة”!


بدر الدين عرودكي

ما الذي يحول بين العربي وبين أن يحتفل بلغته الأم، العربية، بوصفها اللغة الأجمل، والأكمل بين لغات العالم؟

لا شيء بالطبع، شريطة أن يكون المحتفل على معرفة عميقة بعدد لا بأس به من لغات العالم كي يبرهن على ما يقول. أو أن يبدي في قوله سبب حماسته للغته بما أنه يجهل جمال وكمال اللغات الأخرى. إذ من المؤكد أن لكل لغة، شأن اللغة العربية تمامًا، جمالها وخصوصيتها. وطبيعي أنَّ أول من يتذوق هذا الجمال ويدرك هذه الخصوصية هو كلُّ من أوتي من أبنائها موهبة الذوق ومقدرة العلم. ولا حرج في التغني بأي لغة مادام لا يحمل شبهة انغلاق أو عصبية أو استعلاء.

لكن التباكي على لغة العرب، أو الغضب عليها ووصمها بكل ما يعتور المجتمعات العربية من مشكلات التأخر والانحطاط والعجز والاستلاب والتمسك بالماضي، بات -للأسف- تقليدًا سنويًا بمناسبة اليوم الذي كرسته الأمم المتحدة منذ عام 2010 للغة العربية؛ كي يُحتفل بها كل سنة، فنقرأ هنا وهناك رثاء لهذه اللغة العاجزة عن مسايرة العصور الحديثة، أو وصفًا لها باللغة العجوز، والمحنطة، والقاصرة عن مسايرة تطورات العلوم الحديثة، الاجتماعية منها أو الإنسانية أو الدقيقة، ولا سيما في عصر الرقميات. وأول المعترضين هم بعض من يمارس مهنة الترجمة بوصفهم “يعيشون هذا الانحطاط يوميًا” كلما اكتشفوا “غنى اللغات” التي يترجمون عنها و”عجز لغتهم” عن إسعافهم بما يقابل هذا الغنى دون إسفاف أو إمعان في التغريب. لكن آخرين يأخذون عليها أنها لا تزال حبيسة إرهاب سلطة الخطاب الديني التقليدي الذي يضفي عليها طابعًا قدسيًا، يحول بينها وبين التطور الطبيعي الذي تخضع له كل لغة!

بيد أنَّ السؤال الذي يمكن أن يُطرح على هؤلاء وأولئك: كيف لا تستطيع لغة استوعبت معظم لغات العرب القديمة، ولم تتوان على مدار السنين من استخدام واعتماد كلمات من اللغات الأخرى كالآرامية والسريانية والفارسية القديمة، وعاشت كل هذه القرون، ألّا تتمكن من التطور واستيعاب معطيات العصر الحالي بكل تعقيداته ومفهوماته ومكتشفاته التي تُغنى بأسمائها الجديدة قواميس لغات العالم الكبرى، القديم منها كالصينية واليابانية، أو الحديث كالفرنسية والإنكليزية؟

ربما وجب في هذا المجال التذكير ببعض التفاصيل التي لم يعفُ عليها الزمن بعدُ.

في السنة الثالثة من القرن الماضي تأسست المدرسة الطبية التي ستكون نواة كلية الطب في جامعة دمشق بدءًا من عام 1918، وجرى تعليم الطب البشري والصيدلة فيها باللغة العربية حصرًا. بعبارة أخرى، أمكن للغة العربية أن تستوعب مصطلحات الطب الحديث، ولم يكن خريجو كلية الطب السورية أقلَّ علمًا من زملائهم خريجي الجامعات العربية الأخرى التي يُدرس فيها الطب بإحدى اللغتين: الإنكليزية أو الفرنسية.

كذلك، لم يُعرف عن العرب الأقدمين ضلوعهم في علوم البحار والمحيطات، أو أنهم إلى جانب حياة الصحراء التي اشتهروا بخبرتهم بها عاشوا حياة البحر وعانوها. ومع ذلك، استطاع إحسان عباس في ستينيات القرن الماضي أن يترجم إلى عربية ناصعة رواية البحر بامتياز: موبي ديك للروائي الأميركي، هرمان ميلفل، وأتيح لقارئها بالعربية أن يتعرف الكلمات أو الأسماء التي اقتُبست من اللغات الأخرى، أو جرى تبنيها؛ فعُرِّبَت.

أيضًا، لم يشكُ من ترجموا كتب مونتسكيو وروسو وديكارت وماركس، أو كتب سارتر وفوكو وكانط وفرويد على سبيل المثال، ولا الذين ترجموا مسرحيات شكسبير أو روايات ستندال وبلزاك وبروست ومالرو من ضعف اللغة العربية. ومردّ غياب الشكوى أن معظم الذين تصدوا لهذه المؤلفات الكبرى في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وفي الآداب، كانوا من المتضلعين باللغة العربية ومن القادرين بمعرفتهم عالمها ومبناها وقواعدها على العثور على ما يبحثون عنه من كلمات مقابلة أو معادلة لتلك التي تبدو لهم في اللغة الأخرى عصية على الترجمة، إما بسبب حداثة نحتها للدلالة على مفهوم جديد، أو لغرابتها في لغتها الأصلية.

ولعلَّ مما يمكن أن يثير الدهشة بهذا الصدد طرح أسئلة من قبيل: كيف تتطور اللغة، ومن يحملها على التطور، أو ما طبيعة البيئة التي تتطور فيها؟ ذلك أن كل من يعمل في مجال اللغات يعرف الإجابات المختلفة التي قدمت، أو تلك التي يمكن تقديمها.

اللغة كائن حي. تلك بداهة يعرفها الجميع. لكنها ليست كائنًا موجودًا بذاته ولذاته. وكأي كائن حي، لا يمكنها إلا أن تدافع عن وجودها بالوسائل المختلفة التي يدافع بها أيُّ كائن حي عن نفسه في مواجهة الطبيعة أو في مواجهة الخصوم. أما وسائلها الأساس في الدفاع فهي مستخدموها كل يوم، شعراء كانوا أم علماء. على أن الشعراء، أولًا وخصوصًا، ولأنَّ اللغة “بيت الوجود” أو “مسكن الكينونة”، كما كتب هايدغر بمناسبة الشعر على وجه التدقيق، هم الأوْلى بها خدمًا وسدنة. وليس من قبيل الصدفة أن يكتب شاعر سوري لا يُشك في حداثته، حازم العظمة، عن أن اللغة العربية بعد أن كانت “لغة امرئ القيس والشنفرى وتأبط شرًا وابن الورد، (…) ها هي “تتجدد في هذا العصر وتدخل مرحلة جديدة من الجمال والرشاقة والعمق والمدى والانتشار. بعكس ما يقول الناعبون.”.

لكن ثمة شروط أخرى لا بد من تحققها في هذا المجال. إذ لا تستطيع لغة ما، أيًا كانت عبقريتها، أن تستمر في الحياة بدونها، ونعني بها البيئة مجسَّدة بالحركة الاجتماعية والثقافية التي يعيشها المجتمع الناطق بهذه اللغة. فإذا كانت اللغة العربية قد حققت قفزة نوعية وحاسمة في القرن الثامن الميلادي، فذلك؛ لأن هذه الحركة -بالذات- كانت على أشدها، سواء على صعيد تطوير مؤسسات الدولة الجديدة أم على صعيد التفكير الفقهي والفلسفي، استجابة للتغيرات المختلفة التي فرضها اللقاء بثقافات جديدة. أي، بعبارة أخرى، بعد أن كانت اللغة العربية شديدة الاهتمام بالتفاصيل الزمنية والمكانية والنفسية التي جعلت من مفرداتها شديدة الدقة، اتجه اهتمامها، منذئذ، إلى قول الأشياء الجديدة الطارئة على الحياة العربية، السياسية منها أو الاجتماعية أو الفلسفية، بفعل لقاء هذه البيئة القادمة من الجزيرة العربية بورثة حضارتين كبيرتين: البيزنطية والفارسية. وإذا كانت اللغة العربية اليوم تعاني بعض المصاعب في مسايرتها معطيات الحضارة الرقمية خصوصًا، فليس ذلك لعجز في بنيتها الأساس، وإنما لأن بيئتها، أو مجتمعها، لم يدخل -بعد- حقل الإنتاج؛ حتى لا نقول الابتكار في هذا الميدان.

ليست قداسة اللغة العربية، أو ما يظنه بعضهم كذلك، هي الحائل بينها وبين التطور، ولا إرهاب هذه الفئة أو تلك من سدنة الدين أو التقاليد، ولا كذلك عجز بنيتها عن التفاعل أو التأقلم مع المعطيات الجديدة في الزمان أو في المكان؛ فقد تخلت ذات يوم -في القرن الثامن- عن المطلق في بنيتها الأساس لصالح النسبي، ولم يقف الدين أو سدنته حائلًا دون ذلك! بل هو بالأحرى الوضع المأسوي الذي تعيشه المجتمعات العربية اليوم على الصعد كافة، السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية معًا.

فهل اللغة العربية هي المحنطة فعلًا؟




المصدر