أزمة ترحيل الأزمة


أحمد الرمح

أي أزمة يُواجهها المجتمع الواعي؛ يبدأ فورًا بتوصيفها؛ ليضع الحلول لها، وكل أزمة -بالتأكيد- لها عاملان ساهما في نشوئها: الأول، غالبًا ما يكون ذاتيًا؛ والثاني يكون موضوعيًا يسهم الذاتي كثيرًا في إيجاده، ولا يمكن إيجاد حلّ استراتيجي لأي أزمة إنْ لم نبدأ بما هو ذاتي لمعالجته -بجدية- استراتيجيًا.

مشكلتنا -مجتمعاتٍ- أننا نجعل معظم اهتمامنا على الموضوعي، فنهمل ما هو ذاتي! لنبدأ بإلقاء اللوم على الطرف الخارجي؛ حتى نُبرئ أنفسنا، فلا نعترف بتقصيرنا وأخطائنا! فنتنصل من الاستحقاقات التي علينا.

ثقافة ترحيل الأزمة

إن هذا السلوك في التعامل مع الأزمات ولّدت لدينا أزمة؛ لتصبح ثقافة متمكنة من عقولنا ونمطية تفكيرنا؟ ونتيجة ثقافة الترحيل هذه؛ كلما وقع المجتمع في أزمة، نبدأ فورًا بالبحث عمن يمكن ترحيلها إليه، للتخلص مما هو مستحق علينا، ففي الأزمات الكبرى ننقسم ونختلف في مسألة الترحيل هذه؛ فالشارع يلقيها على الأنظمة، والنخبة تُرحلها على قلّة الوعي لدى الشارع؛ والأنظمة تُرحلها أبعد؛ إذ تُلقيها على المؤامرة الدولية؟! وبهذه الطريقة يتنصل الجميع من دوره، وما يجب القيام به؛ ما يؤدي إلى تفاقمها دون إيجاد حل يتشارك فيه الجميع.

إنَّ حصر المسؤولية لأزماتنا بالعامل الخارجي مهما كان؛ إنما هو ترحيل للأزمة وهروب من استحقاقاتها؛ إذ علينا أن نعترف بكل شجاعة أننا جميعًا سبب فيها، وإيجاد حلّ لأزماتنا يبدأ من الذاتي ومعالجته، ووضع الحلول الناجعة له، وهذا ما يجب على الجميع التفكير به، فجزء من الحل يقع على عاتق كل منا، مهما كان دوره، والرسول الكريم يُشير إلى المسؤولية الجماعية بقوله: كُلّكُم راعٍ وكُلّكُم مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيّتِهِ. (متفق عليه).

وكما أنّ تَحَمُّل المسؤولية يقع على الجميع؛ وكذلك المشاركة في الحل، وهذا يتطلب أن تكون لدينا استراتيجية واضحة ومرسومة؛ قائمة على مصلحة المجتمع تحديدًا؛ وهذا هو الفرق بين المجتمعات المُتحضرة والمُتخلفة، إن استراتيجية المجتمعات المتحضرة مرسومة وواضحة؛ أما قادتها فتنحصر مهمتهم الأساسية بتحقيق تلك الاستراتيجية وآمال المجتمع وحاجاته.

وهنا نتذكر الأنموذج(الأيسلندي)عندما انهار الاقتصاد؛ نتيجة أزمة الرهن العقاري عام2008.

بدأ المجتمع بمعالجة أزمته؛ فلم يذهب باتجاه العامل الخارجي وسياسة البنوك العملاقة والإدارة الأميركية؛ إنما بدؤوا بما هو ذاتي، وما يجب عليهم فعله؛ فبدأت حركة إصلاح شارك فيها المجتمع برمته، وعندما وضعوا دستورهم الجديد لم يتولى ذلك الفقهاء الدستوريون فحسب، إنما وضعوه، بعد إنهائه، على مواقع التواصل الاجتماعي؛ ليشارك المجتمع كله بوضع آرائه ومقترحاته عليه، فخرج دستورًا مُتوافقًا عليه ساهم فيه الجميع وأنقذ إيسلندا من أزمتها.

بمعنى أكثر وضوحًا أن السياسيين والمفكرين والاقتصادين والإعلام، إضافة إلى الشرائح المجتمعية كلها، تبدأ العمل فريقًا واحدًا في أثناء الأزمة؛ لتحقيق استراتيجية المجتمع ومصالحه وأهدافه، وهو ما نفتقده في مجتمعاتنا! هم في الأزمات يتوحدون، ونحن نتفرق ونختلف! فنُخّوِن ونُكفّر بعضنا بعضًا!

أزمتنا في الربيع العربي

عندما تطورت أحداث الربيع العربي باتجاه عسكرتاري، إيمانًا من بعضهم بأن المعادلة الصفرية مع أنظمة كهذه هي الحل؛ متجاهلين التجارب المجتمعية المماثلة لحالة الربيع العربي؛ كربيع أوروبا الشرقية نهاية القرن المنصرم، ذهبنا جميعًا، نازحين ومهاجرين؛ وبدأنا حملاتنا “الفيسبوكية” مُطالبين الآخر بحل قضيتنا؛ فهذا الفريق يريد من(أردوغان)، بصفته سُنيًا أن يقود جيشًا لُيسقط النظام! وكأن الانتفاضة السورية انتفاضة مذهبية! حتى أنّ أحد المسؤولين الأتراك قال لي: إنكم تعتقدون أن الثورة السورية هي ثورة الأتراك أيضًا، وهذا ليس صحيحًا؛ إنما هي ثورتكم نساعدكم فيها، دون أن تكون مُقدَّمة على مصالح دولتنا والشعب التركي.

فريق آخر يريد من مجلس الأمن أن يكون ثوريًا، متناسيًا أن مصالح الأمم مقدمٌة على المفاهيم الإنسانية والأخلاقية، وآخرون من النخبة السياسية يريدون من الإدارة الأميركية أن تُرسل لنا “كوماندوس” يقاتل عنا لإسقاط النظام؛ ولن أذيع سرًا عندما أُذَكِركم بحادثة مهمة مطلع الحراك الثوري في سورية، وتحديدًا في الثلاثين من نيسان/ابريل2011، حيث جاء السفير الأميركي (روبرت فورد) فجأة إلى اجتماع سريّ يعقده (رياض سيف) في منزله في دمشق، لإدارة الحراك، وخاطب الجميع بوضوح، قائلًا: نعلم جيدًا كيف تفكرون، ولكن هناك مسائل ممنوعة عليكم؛ لن نسمح لطرف بالانتصار على الآخر عسكريًا، ولن نتدخل عسكريًا لإسقاط النظام، مهما حدث، ولن نسمح بإبادة الطائفة العلوية، ولن نقبل بتطبيق الشريعة الإسلامية، ولا العودة لحدود الرابع من حزيران مع اسرائيل، فاحذروا من عسكرة ثورتكم!

إن الإيمان بترحيل الأزمة جعلنا نُراهن على سلفية جهادية، عَبَرتْ الحدود لتُحقق لنا نصرًا موهومًا؛ وصفّقنا لها! فحرفت الثورة عن مسارها؛ حتى أوصلت البلاد إلى حالة دمار وخراب لا نظير لها، ولا نزال نُلحُّ على الله عز وجل كي يرسل لنا جبريل مع فرقة من الملائكة لتقاتل إيران وروسيا وجيش النظام حتى ننتصر! وتحكمت عواطفنا وانفعالاتنا بقراءة حادثة اغتيال السفير الروسي بأنقرة! وآخر مطالبنا “الفيسبوكية” بعد تلك الحادثة أن يقوم مرافق بوتين أو الأسد باغتياله؛ إنها أزمة ترحيل الأزمة والتهرب من الاستحقاق الذاتي.

للأسف ما يزال مجتمعنا مُتواكلًا على أساطير يعتقد بصحتها، تجعله مُنْتِظرًا “المهدي”؛ ليأتي بالفرج بعد أن يعمَّ الخراب والدمار لينقذنا! ولا يزال هذا الضمير مُصدّقًا خرافة نزول المسيح بدمشق؛ ليبدأ حربًا عالمية ينصر فيها الطائفة المنصورة والفرقة الناجية التي تعيش أوهامًا تعتقد بصحتها، متناسين -بوصفنا مسلمين- القانون الرباني القائل: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً. (النساء:123)

لقد آمنا بمخلصين يأتون من الخارج لنصرتنا حتى جاءت روسيا؛ لتُرَحّلَ مَنْ تبقى منا، وتناسينا شرط الخلاص الرباني القائم على قاعدة الذاتي القرآنية (وَقُلِ اعْمَلُواْ).

ختامًا

إن الأزمات تُواجه بحكمة وشجاعة؛ وليس بالأماني والأحلام والمخلصين الميتافيزيقيين! كما تحتاج إلى معرفة الخلل الذاتي وإصلاحه لمواجهة العامل الموضوعي، ونحن نُعاني من خلل ذاتي هو السبب في جعل الموضوعي فاعلًا فينا، وقوة خصومنا تكمن في ضعفنا، وقلة حكمتنا، وثقافة ترحيل الأزمة المهيمنة على عقولنا، والمُكبّلة لسلوكنا، والله سبحانه وتعالى وضع سُنة للتغيير تبدأ من الذاتي شرطًا:

إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ. (الرعد:11)

ولكي نُحقّق الإصلاح، لابد من البحث جديًا في الذاتي ومعالجته، فالصراع الطائفي والمذهبي والقومي في ما بيننا شجّع الموضوعي؛ كي يتدخل ويحقق مصالحه، كما أنّ اعتقادنا بأننا نملك إرثًا تراثيًا قادر على حلّ مشكلاتنا وهٌم جربناه كثيرًا وفشل، وأن أهم شروط ولوج الحضارة والنهضة المعاصرة تتمثل بالحرية والديمقراطية والمجتمع المدني والمواطنة الكاملة والبحث العلمي؛ حتى نصل إلى تنمية حقيقية وإبداع علمي، لكننا لا نزال كفّارًا بالمعاصرة وشروطها رافضين أدواتها.

إن الحديث عن امتلاك القوة، بوصفها شرطًا للنهضة حديث صحيح؛ ولكن علينا أن نفهم أن القوة ليست العسكرة فحسب، فالعلم والوعي والإبداع والتنمية والاقتصاد والديمقراطية والدين والإنسانية كلها قوة. وكل حديث وبحث في الموضوعي وإهمال الذاتي، إنما هو هدر للوقت والطاقات، فلنتوقف عن ترحيل أزماتنا إلى الآخر، منتظرين حلولًا غيبية، انتهت في عصر قانون السببية.




المصدر