انتصار الروس وخروج إيران


عمار ديوب

أعطى الروس للإيرانيين أكثر من درس، فقصفوا لهم مواقع عسكرية، وأوقفوا الطلعات الجوية أكثر من مرة، وراحوا يتدخلون بتغيير ضباط أساسيين في جيش النظام بعد أن كان الأمر حكرًا على إيران.. وهكذا؛ فروسيا هي الدولة المحتلة الأساسية لسورية. وهي المتحكم الوحيد بشؤون السوريين، وبالتالي؛ وظيفة إيران وميليشياتها الطائفية المُستوردة تكمن في خوض الحرب البرية ودحر المعارضة، وبواسطة الغطاء الجوي الروسي، الغطاء الذي استدعته إيراٍن ذاتُها بعد أن فشلت في مواجهة الفصائل في أيلول/ سبتمبر 2015. بات للروس قاعدتان عسكريتان: برية وبحرية، ووجود كبير في مختلف المدن السورية، ويشرفون على المصالحات والهدن، وهم حُماة النظام دوليًا. إذن؛ على إيران أن تفهم أنّ وجودها في سورية يجب أن يتقلص، وأن شهر العسل مع النظام قد انتهى، وفي هذا مصلحة للسوريين ولتركيا ولإسرائيل ولدول الخليج، وربما لأميركا حينما يتسلّم ترامب الرئاسة.

جاء الانتصار الروسي على أحياء حلب الشرقية بعد اتفاقٍ روسيٍّ – تركيٍّ، يَسمح لتركيا باحتلال بلدات سورية، وتأهيل فصائل للجيش الحر لمقاتلة داعش والأكراد –حين الضرورة- وفي مرحلة لاحقة الضغط على النظام وإيران ذاتها حينما تقترب المداولات؛ لتقسيم الكعكة السورية، ومقابل ذلك تجتاح روسيا حلب، وبذلك تبدأ مرحلة جديدة، تتطلب تنسيقًا روسيًا تركيًا إيرانيًا.

الأتراك، وبعد تجريبهم للأميركان وللأوروبيين لزمنٍ طويلٍ في حسبان تركيا شريكًا مساويًا لدولهم، ولم يتحقق ذلك، اتجهوا نحو الروس، ولم تطلْ فترة القطيعة بين الروس والأتراك بسبب إسقاط الطائرة الروسية، لتعود المياه إلى مجاريها، وضمن توافقات ذكرنا بعضها أعلاه، وستشمل بالضرورة مناطق أخرى ولا سيما إدلب والرقة ودير الزور. الأتراك طرفٌ أساسيٌّ في الاجتماعات التي أعلن عنها الروس في الأستانة وموسكو، ولم يُعكّر اغتيال السفير الروسي في تركيا من الأمر شيئًا، والتي تتكثف كثيرًا، وقد وافقت عليها المعارضة السورية، وبالتالي؛ كأنّ دمار حلب يُشكّل بدايةً جديّةً لمفاوضاتِ الحل السياسي، وربما هذا متفقٌ عليه! الخاسر الأكبر من التوافقات هو النظام؛ فهو ضعيف وليس بمقدوره أن يرفض أي توافق بين الدول المشار إليها. الروس -دون شك- يستغلون غياب الأميركان ليفرضوا واقعًا جديدًا واتفاقات سياسية إقليمية، تكون نتيجتها بروز روسيا لاعبًا سياسيًا أساسيًا في منطقة الشرق الأوسط.

يعلم الروس من درس أفغانستان أن الاستمرار في الحرب ضد السوريين سيورطهم في سنوات طويلة من الخسارة؛ فهناك دعوات مستمرة للبدء بحربِ عصابات، أو تشكيل جيش جديد للفصائل، وهناك الجهادية التي على الرغم من محاصرتها في إدلب والرقة، فإنها ستضرب بقوة أكبر في المدن الروسية والقواعد العسكرية في سورية؛ كما أن حماية الروس للإيرانيين تشكل سببًا إضافيًا لجمهور الثورة السورية لعدّ أن الروس احتلال يمارس إذلالًا كبيرًا لا يختلف عن إذلال النظام لهم سابقًا، كما أن دول الخليج ترفض -بشدة- الوجود الإيراني في سورية. وبالتالي؛ ستشهد سورية انفلاتات عسكرية شرسة، ولن تكون المرحلة المقبلة مستقرة ما لم تُراعى مصالح المعارضة والدول الإقليمية، وتُهمَّش المصالح الإيرانية بشكل كبير.

درس حلب -أيضًا- ستتعلم منه الفصائل المقاتلة، فقد رأت بأم العين ما تفعله الجهادية، وأن السماح بوجودها في مناطق المعارضة، ولا سيما درعا وإدلب وحماه، فرض على الفصائل إما الانحياز إلى تركيا كما يجري، أو مواجهة الجهاديات في مدنها والتخلص منها. طبعًا هناك مناطق ستشهد معارك طاحنة، ولا سيما غوطة دمشق الشرقية، ولن يُوقف ذلك إلّا الحل السياسي، أو توافقات جائرة بحقِ الفصائل فيها؛ فعلى الأرجح أن الروس لن يقبلوا أي مواجهات قوية في محيط العاصمة.

لن يجري إخراج إيران قبل استتباب الأمن لروسيا في سورية، وقبل حدوث بدايات جديّة للحل السياسيّ، وحينها ستُكافأ إيران -ربما- بجزء من العراق، وبعدم الضغط على نظامها، أو باتفاقيات اقتصادية مجزية وهكذا؛ بقاء إيران كما كانت في سورية أمر مستحيل للأسباب التي ذكرنا أعلاه.

الغائب الأكبر سيكون الشعب السوري، الموالي والمعارض، فالجميع سيُدعى للموافقة على التوافقات، ومن يرفضها ينتظره التهميش أو السحق العسكري أو التهجير من خارج الدول المحيطة في سورية. هذا الواقع بدأت تعيه المعارضة جيدًا، ولهذا نجد الاستقالات المتتالية من الائتلاف الوطني لقوى المعارضة بعد دمار حلب، وصمت الدول الإقليمية وتركيا عن ذلك. النظام ما زال يتوهم أن روسيا تُشرف على إعادة تأهيل الشعب؛ ليعود للعبودية السابقة، وهو يراهن على الاستعانة بإيران لتحقيق ذلك. الحقيقة تقول إن هذا كلام قديم!؛ فبخروج حلب من المواجهة، وبضعف تركيا أمام روسيا، ووجود علاقات قوية بين دول الخليج ومصر مع روسيا، فإن البدء بمفاوضات جدية قد يكون مسالة وقت.

إذن سنشهد تطورات كبيرة في الأشهر المقبلة، وربما خروج حلب شكل البداية. وكما أنّ النظام متخوف، وهو الخاسر الأكبر، فإن القوى السياسية المعارضة لم تلتقط -بعد- أهمية اللحظة التاريخية لتشكيل جسم سياسي قوي ومعبر عن أهداف الشعب، ويستند بالضرورة إلى رؤية حداثية لكل مظاهر الحياة، ورفض كل وجود للإسلام السياسي أو الطائفية السياسية، وبالتالي؛ عدّ المواطنة جذر الدستور والقوانين للدولة السورية المستقبلية.

ليس سهلًا ما جرى في سورية، فالمعارضة بلا ظهيرٍ عسكريٍّ يُقويّ دورها، فأغلبية الفصائل خاضعة لدول خارجية، والنظام -بدوره- باتت إيران وروسيا حاميته، ولولاها لكاد يسقط مرارًا، وبالتالي؛ لا توجد كتلة وطنية سورية قادرة على التدخل والمساهمة في تسلّم الزعامة لكل السوريين. هذه هي مهمة الفاعلين السياسيين الآن، فالمعارضة تتهالك، والنظام سيُشطَب بالضرورة مع أي مفاوضات جدية.

إيران وروسيا ستختلفان بالتأكيد، فلا يمكن لقوتي احتلال أن تحتلا بلدًا واحدًا، والروس يحاولون استمالة المعارضة وبقايا النظام، وإذا كانت تركيا والسعودية ستُؤمّن ذلك، فإن حجم التداخل الروسي المتصاعد في النظام سيُجبره على أيّ خطوة مستقبلية يجري التوافق عليها.

بيان موسكو الأخير، يُلحظ منه أن سورية لن تتغير معالمها، فهل يعني ذلك أن يساهم ذلك البيان في إعادة إنتاجها مجددًا ووفقًا لتنوعها واختلافاتها، وبما لا يتناقض مع أهداف الثورة والشعب السوري بكل تنويعاته. الأمر بالغ الصعوبة، فروسيا كانت عرابة اجتثاث الثورة وإعادة إنتاج النظام. الحقيقة أن الأسلمة والجهادية دخيلة على عموم الشعب السوري، وأن واقعه المتنوع دينيًا وطائفيًا واثنيًا وعرقيًا وحداثيًا.. يفرض على الروس المحافظة على الشكل العلماني للدولة. لكن يبقى الأمر مفتوحًا لتحولات الواقع. الواقع ليس سهلًا، ولكنه قابل للتغير بجهد السوريين؛ وهذا هو الأمل الآن.




المصدر