on
حلب… هدية روسيا لإيران “مع الحب”
باسم حسين
على التوازي مع عملية إخلاء أحياء حلب الشرقية من سكانها، التي نفذتها قوات النظام السوري والميليشيات الطائفية التي تتحكم بها إيران وتُهيمن عليها وتُشغّلها، واقتراب إفراغ هذا القسم من المدينة الذي كان يعيش فيه أكثر من مليون ونصف من السوريين، ظهر الجنرال قاسم سليماني سيئ الصيت، قائد ما يسمى “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني، وهو يتجول على أنقاض المدينة، و”يتمختر” قرب قلعة حلب، وتُدنس ميليشياته المسجد الأموي في شهباء الشمال السوري.
لم يشعر النظام السوري بأدنى حرج أن يكون ضابطًا إيرانيًا (فارسيًا) هو أول عسكري كبير يدخل المدينة بدلًا من ضباطه، ولم ير هذا النظام ضيرًا في أن يطأ ممثل الاحتلال الإيراني، والحاكم العسكري الفعلي لسورية، أرض حلب، ضاربًا بعرض الحائط بقايا السيادة والاستقلال.
وفي هذا السياق أيضًا، لم يصدر عن الروس أي رد فعل حول سيطرة الإيرانيين على حلب، وادعاء قادتهم بأن “جبروتهم وقوتهم” هي السبب في السيطرة على المدينة، متجاهلين كليًا دور سلاح الطيران الروسي الذي دك المدينة ودمّرها بوحشية قلّ نظيرها.
بفعلته هذه، “يبصق” سليماني في وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفي وجه رئيس النظام السوري بشار الأسد، ليؤكد على عدم وجود قدر ضئيل من الكرامة لدى أنظمة سعت لقمع ثورات تُطالب بالكرامة.
ظهور سليماني في حلب إهانة لبلديهما، ولعقيدتهما القتالية، ولجيشهما، وتأكيد على أن الروس تخلّصوا من المعارضة السورية في حلب، لكنّهم سلّموها “دون أن يعوا” للميليشيات الإيرانية واللبنانية والعراقية التي لا تُحلّل ولا تُحرّم، وتتعامل مع سورية كسبية تجب استباحتها لأقصى حد، ويُقدّر بعضهم عددهم بأكثر من 20 ألف مقاتل، الصفة المشتركة بينهم هي نزعتهم الطائفية المذهبية.
منذ مطلع تشرين الأول/ اكتوبر الماضي، بدأت وسائل الإعلام الموالية لإيران والتابعة للنظام السوري، والمُلحقة بالحكومة العراقية أيضًا، بالترويج بأن قيادات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بدأت تنتقل من الموصل في العراق إلى سورية، أفرادًا وجماعات، وإلى حلب والرقة في شمالي سورية تحديدًا، وحاولت الإيحاء بأن حلب والرقة مرتعًا ومركزًا تجميعيًا لهؤلاء المقاتلين، ليُبرروا لنفسهم ولروسيا ولجميع الميليشيات المنفلتة التي تعمل لصالح النظام.
ما أوقف هذه الحملة المبرمجة، تأكيد وزارة الدفاع الفرنسية أن ما يحدث هو العكس، وأن المئات من عناصر تنظيم (داعش) انتقلوا من سورية إلى العراق؛ لتعزيز صفوف التنظيم في الموصل العراقية، عندها انتبه المراقبون إلى أن المسافة بين الموصل والرقة هي مئات الكيلومترات من الأراضي الصحراوية المكشوفة، والتي يمكن فيها لكل أنواع الرصد الجوي أن تلتقط كل حركة، وتستهدف كل قافلة، وهو ما لم يحدث، لا من سلاح الطيران الروسي ولا طيران النظام لسوري أو العراقي، ولا حتى من طيران التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، إضافة إلى أن بعض تلك المناطق تخضع لسيطرة ميليشيات كردية، مؤتلفة مع النظام السوري، وبعضها تحت سيطرة كتائب تتبع للجيش الحر، وأخرى تتبع لقوات للنظام، ولم يحدث أن لوحظ انتقال مشبوه لمقاتلي تنظيم الدولة فيها، على عكس ادعاء إيران والنظامين السوري والعراقي.
بمساعدة ودعم مباشر من سلاح الجو الروسي، سيطرت الميليشيات التابعة لإيران على حلب، وكسبت ما لم تحلم سابقًا في كسبه، واسترجعت -وفق منطقها- عصر الفاطميين والحمدانيين، من جهة، وأنجزت (الكريدور الشيعي) الحلم الذي يصل إيران بالمتوسط، وبات بإمكان إيران ربط طهران بالعراق فسورية؛ وصولًا إلى لبنان الذي تُسيطر عليه ميليشيات حزب الله اللبناني، التي لا تخفي ولاءها الأول، والمطلق، لولي الفقيه الإيراني.
بعد سيطرة الإيرانيين وميليشياتهم على حلب، ومعهم بعض من ميليشيات وقوات النظام؛ لسد الذرائع. توقف الحديث عن أي وجود لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في محيط حلب وقربها، وتبخّر مقاتلو التنظيم فجأة واختفوا، ولم تعد وسائل الإعلام سابقة الذكر تذكر أي وجود لهم في المنطقة.
سيغيّر الإيرانيون -الآن وبسرعة غير عادية- ديموغرافية حلب، بعد أن طردوا سكانها الأصليين، وربما يساندهم النظام السوري وبعض القوى الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، وكل لأهدافه وغاياته، فتهجير أصحاب الأرض (السنّة) قد تم، وبات الوقت مناسبًا لملء الفراغ بـ نوع آخر من السكان، غرباء لا علاقة لهم لا بالأرض ولا بالتاريخ ولا بالمنطقة، نوع آخر لا علاقة له بالعروبة ولا بالوطنية السورية، نوع لا همّ له سوى إكمال (الكريدور) الشيعي – الفارسي الذي تسعى إيران لإقامته، عبر الحروب ونشر الإرهاب والمجازر والجرائم ضد الإنسانية.
منذ أن بدأ التدخل الروسي العسكري المباشر في سورية في أيلول/ سبتمبر العام الماضي، انتهج الروس سياسة الأرض المحروقة لطرد المعارضة السورية، ولاستعراض عضلاتهم على السكان، ولفرض أنفسهم قوةً كبرى في العالم من جديد، وفي حلب بالذات، وضعت كل ثقلها، فشنّت غارات لا نهائية على المدينة، وألمح مسؤولون روس إلى احتمال انتهاج سياسة مشابهة لسياسة الروس في غروزني، لما لهذه المدينة من أهمية استراتيجية للروس، كنقطة تحوّل نوعي لصراعهم في سورية، لكن ما يجري على في الميدان لا يتوافق مع ما يُخطط له الروس، فالروس الذين يتعاملون مع سورية بوصفها ساحة حرب تقليدية، يعتمدون على قوة الذراع فحسب، دون قوة التفكير، وقعوا في فخ الإيراني، الذي اعتاد على “اللف والدوران، وصاحب العقيدة “الباطنية” التي تقول عكس ما تُبطن، وتفعل عكس ما تُعلن.
سيطر الروس جويًا على حلب، دمّروها وقتلوا أهلها، بقوة لا إنسانية، لكن من سيطر على الأرض هم الإيرانيون، الذين تدفّقوا جحافلَ، هم ومرتزقتهم، بعد أن مهّد لهم الروس الطريق، فالروس لا يملكون القوات العسكرية البرية التي يمكن أن تشغل الفراغ، ولا النظام السوري أيضًا، الذي أُنهكت قواته العسكرية، وتحوّل جزء منها إلى مرتزقة وميليشيات.
“احتلت” إيران حلب، وكل ما اشتغله الروس كان لخدمتهم، وبدؤوا فورًا بالتغيير، حتى يستحكموا، ولا يستطيع الروسي إخراجهم، حُسينياتهم جُهّزت في يومين، واحتلالهم للبيوت قائم على قدم وساق، وتغيير السجلات المدنية مستمر بدقة وحرفية، حتى يختلط الحابل بالنابل، ولا يستطيع أحد تمييز المرتزق الإيراني عن صاحب الأرض الشرعي، وهذا ما لم تُفكّر به آلة الحرب الروسية، الغبية العمياء.
لم تتحرك روسيا ضد “الاحتلال” الإيراني المفاجئ، وغالبًا لن يكون بيدها ما تفعله أمام خبث وباطنية وقذارة التخطيط الإيراني، كذلك الأمر بقي الموقف الأميركي غامضًا، فلا احتجاج ولا اعتراض، إما عدم اكتراث بما جرى، أو رضى عن تجميع الميليشيات في منطقة واحدة ليصار لتدميرها في حرب مقبلة.
سيطرة الإيرانيون على المدينة الثانية الأكبر في سورية، وانتشار الميليشيات الطائفية المنفلتة، من حزب الله والفاطميون والزينبيون وأتباع أبو الفضل العباس، وأكثر من 66 تشكيلًا طائفيًا مقاتلًا، مرجعيتهم جميعًا إيران، دمّر الحاضر، ومن المّرجّح أن يُدمّر المستقبل، مستقبل المنطقة كلها، ليس حلب وحسب، فالطاعون عندما ينتشر لا يتوقف قبل أن يُحوّل البلاد إلى مقبرة كبيرة، وكل هذا نتيجة تقديم روسيا (حلب) هدية مجانية لإيران، هدية ستنزف روسيا من بعدها، وستندم على اليوم الذي تحالفت فيه مع الضباع.
المصدر