في ضرورة العودة إلى «بطون» سورية الرخوة


الحياة

لم يكن مسموحاً في «دولة البعث التسلطية» فتح أي نقاش عام أو خاص حول ظاهرة «نقص الاندماج الوطني» في الكيان السوري، وما تفرع عن هذه الظاهرة من هيمنة مذهبية صريحة على النواة الأمنية/ العسكرية للنظام، التي أدرجت الانقسامات المجتمعية في آليات اشتغال استبدادها الشمولي من طريق اختراقه للبنى الطائفية والمذهبية والإثنية القائمة، واحتجاز المسارات المحتملة والممكنة للانتقال من منطق تراصف الجماعات ما قبل الوطنية إلى منطق الاندماج المجتمعي المؤسس لفكرة الدولة الوطنية.
في الوقت الذي ذهبت «الثقافة القومية الاشتراكية» المبتذلة مذهباً أيديولوجياً مزيفاً وتعبوياً لتجييش حالة جماهيرية توتاليتارية صاخبة، بهدف إخفاء الانقسامات العمودية، التي ازدادت عمقاً واتساعاً في قيعان «المجتمع» التقليدية، نتيجة سياسات الظل لـ «الدولة» السلطانية المحدثة.

وصار واضحاً بعد القضاء على ثورة السوريين السلمية، التي كانت تنطوي على ميول اندماجية صادقة، وبعد القضاء على فكرة الجيش الحر، التي كانت تحمل بدورها تصورات ورؤى لبناء مؤسسة عسكرية ذات طابع وطني، ارتسام خريطة قوى وفصائل الحرب في سورية وفقاً لثلاثة انقسامات عمودية، تخترق «الاجتماع السوري»: الانقسام السني – العلوي، والانقسام المديني – الريفي، وكذلك الانقسام الكردي – العربي، علماً أن هذه الانقسامات الثلاثة لا تستنفد انقسامات طائفية ومذهبية وإثنية أخرى، لكن هذه الأخيرة غير منتجة لقوى حرب لأسباب عدة لسنا بصددها.

والحال أن ثلاثة انقسامات حددّت ثلاث مجموعات من القوى المسلحة:

أولاً، النواة الأمنية – العسكرية للنظام معضّدة بميليشيات الشبيحة والميليشيات الشيعية القادمة من الخارج، مدعومة بالوجودين العسكريين الروسي والإيراني.

ثانياً، الفصائل الإسلامية المسلحة، على اختلاف مسمياتها وراياتها وأوثانها، المنتمية إلى المجال الذي حددّه تقاطع الانقسامين السني – العلوي والمديني – الريفي.

ثالثاً، الفصائل الكردية المسلحة التابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي.

وإذا نظرنا إلى رؤى وتجارب وممارسات هذه المجموعات الثلاث، نجد أنها مجموعات تجمعها ماهية واحدة، فهي متشابهة في منطلقاتها المعرفية والأخلاقية والسياسية، حيث تفتقد إلى عناصر العمومية، وغارقة في أبعادها الجزئية والحصرية ما دون الوطنية، وهي مجموعات ما قبل سياسية، بالمقدار الذي تعني فيه السياسة فاعلية مجتمعية سلمية لا تمر من فوهة البندقية، وأيضاً هي مجموعات تزدري مسائل الحرية والتعاقد والدولة والفضاء الوطني والأخلاق العامة والقانون والتقدم وكل ما يتصل بتحسين حياة البشر والقضاء على استلاباتهم. لذا استقدمت كل أنواع التدخلات الخارجية، وحولت سورية إلى ساحة صراع إقليمي، فأصبحت السلطة جزءاً من تحالف ميليشيوي همجي غازٍ لغالبية الجغرافيا السورية، ولم تقدم الفصائل الإسلامية المسلحة في المناطق التي سيطرت عليها إلا نماذج قروسطية بشعة في الإدارة ومقززة للسوريين والعالم، وأثارت سياسات التسلط والهيمنة للفصائل الكردية المسلحة اعتراض طيف واسع من الكرد السوريين، الذين لا يتشاركون الرؤى معها، فضلاً عن مواقف العرب والآشوريين والسريان المتواجدين في مناطق تلك الفصائل.

ولأن تلك النوى السلطوية والفصائل المقاتلة قوى عدوان على المجتمع وقواه الحية وعلى حياته المدنية والسياسية، وعلى روحه العامة واحتمالات انتظامه واستقراره، يتحتم على الفاعلين الاجتماعيين والناشطين وقادة الرأي العام والنخب الثقافية والسياسية السورية العودة إلى «بطون» سورية الاجتماعية الرخوة، التي بقيت خارج هيمنة مجموعات الحرب وأطر المعارضات الملحقة بها، وهي «بطون» تتموضع داخل سورية وخارجها على امتداد دول اللجوء القريبة والبعيدة، وداخلياً تتكثف في مناطق سيطرة السلطة ومناطق سيطرة القوى الكردية بفعل حركة النزوح الداخلية إليها، وتضم سوريين متفاوتين اجتماعياً وطبقياً وثقافياً، ومتعددين مذهبياً وطائفياً وقومياً، لكنه تعدد، على رغم المجازر والمذابح التي حدثت، ما زال يميل إلى إنتاج حياة عامة مشتركة، بعكس اتجاهات النوى الصلبة للحرب، التي هتكت النسيج الاجتماعي السوري الهش أساساً.

وتهدف العودة إلى تلك «البطون» الرخوة إلى تثمير واقعتي الاختلاف والتعدد، وميول التسامح والاعتدال التي تنطوي عليها، لإعادة بناء معارضة وطنية سورية وازنة، تستطيع مخاطبة السوريين بصفتهم سوريين وليس بصفتهم طوائف وإثنيات، وتستطيع أيضاً مخاطبة العالم الذي تنتمي إليه، والتأسيس لعملية تاريخية طويلة وشاقة وغير مضمونة للخروج من حالة الانهيار الكبير، الذي أسقط «الدولة» وأسقط «الاجتماع الوطني»، ويهدد بإسقاط الكيان السوري.

(*) كاتب سوري




المصدر