صادق جلال العظم استرجاع الجمهورية


تهامة الجندي

“كيف قبلنا العيش تحت سلطة توهمنا أن زوالها يعني انعدام الأمن؟ وهي التي جعلتنا نشعر دائمًا بعدم الأمان، فأيّ منا يمكن -في أي لحظة- أن يلتحق بركب آلاف المفقودين. كيف سكتنا عن حماه وعن الاعتقال التعسفي والتعذيب في السجون، وابتلعنا التوريث؟ لن يسمح السوريون مرة أخرى، أن يُحكموا بهذه الطريقة، أو أن تتفرد طائفة بالسيطرة على مقدّرات دولتهم” هذا ما قاله صادق جلال العظم، في واحد من حواراته الصحافية، قبل أن يرحل إلى مثواه الأخير، وتفقد الثورة السورية بغيابه مفكرًا من أبرز وأهم المدافعين عنها.

ومن يطلع على جهد العظم منذ بداية الربيع السوري، وحتى آخر رمق من عمره الذي ناهز الثالثة والثمانين، سوف يدهشه نشاطه الذهني في سنواته الأخيرة، التي كرسها للسجال مع الرأي العام، حول أحقية الشعب السوري في انتزاع حريته، أو في قراءة واقع الثورة، وتفسير ظواهرها ومتغيراتها، بروح المنتمي إليها، وبلغة واضحة يفهمها المثقف والمواطن العادي.

عرّف العظم الثورة السورية بأنها “استرجاع الجمهورية من السلالة الحاكمة إلى الأبد، ومن مجمعّها العسكري-التجاري الاحتكاري“، وبذلك ميّز قاعدتها الشعبية العريضة، وأبرز عدالة منطلقاتها ومطالبها. وحين حدد خصوصيتها في سياق ثورات “الربيع العربي”، أوضح أنها نتيجة القمع الوحشي الذي واجهته، استعاضت عن تجربة الميدان والساحة، بتجربة توزيع بؤر الحراك الثوري السلمي في البداية، والمسلح فيما بعد، على شتى أنحاء سورية؛ ما أدى إلى تشتيت قوات القتل الأسدية وإنهاكها واستنزافها. ورأى في اعتماد الثورة على التنسيقيات الشبابية، أنها كسرت تقاليد الزعيم الملهم الأوحد والحزب الواحد.

واحدة من وجهات النظر التي أثارها العظم، وأثارت حوله كثيرًا من الانتقادات، كانت وجهة نظره بإنهاء ما أسماه بـ “العلوية السياسية” الحاكمة في سورية، ودعوة الملتزمين بالثورة، أن يعترفوا صراحةً: أن العلويين هم العامود الفقري للنظام العسكري-الأمني الحاكم، ولقواته الضاربة وشبيحته. والسنة هم العامود الفقري للثورة، وأن السواد الأعظم من المشردين واللاجئين والمشتتين السوريين، هم من الأكثرية السنية، بعد التدمير الممنهج لقراهم ومدنهم وأحيائهم ومصادر عيشهم، وأن تطرف النظام وغلّوه في سحق الثورة، أدى إلى عسكرتها، واستدراج تطرف مضاد في أوساطها.

بوصفه مفكرًا يساريًا علمانيًا، لم يحاول العظم تجاهل وجود “الإسلام السياسي” في صفوف الثورة، بل حاول تعريفه ووضع ترسيمات واضحة له. رأى أنه “إيديولوجية تعبوية شديدة التأثير، مستمدة ومُشكلّة، بصورة انتقائية وجزئية، من بعض نصوص الإسلام المقدسة ومرجعياته التراثية، ومن عدد من سوابقه التاريخية وحكاياته المتداولة أبًا عن جد، ومن حاضر العجز الإسلامي وهامشيته في مجريات التاريخ الحديث”. وشدد على عدم الخلط بينه وبين التدين الشعبي التلقائي والعفوي لعموم المسلمين، الذي يتمحور في جوهره حول العبادات والمعاملات.

في سياق ما يُعرف بـ “الإسلام السياسي”، يمكن التمييز بين ثلاثة اتجاهات مختلفة ومتصارعة: الأول هو “إسلام الدولة الرسمي”، وهو نتاج الأنظمة السياسية والحكومات وأجهزة الدولة والمؤسسات الدينية الرسمية. ويجد أنموذجه الأعلى في “إسلام البترودولار” لدولتين مثل العربية السعودية وإيران، بعقديتي: “القرآن دستورنا” و”ولاية الفقيه”، وهذا الاتجاه مدعوم جدًا على جميع المستويات المحلية والدولية، بجبروت الدولة وبأس أجهزتها الأمنية، وبقوة أموالها وإغراءاتها. وقد طورت كل دولة من دول العالمين: الإسلامي والعربي، طبعة ملائمة لمتطلباتها من “إسلام الدولة الرسمي”.

الاتجاه الثاني يمكن تسميته بـ “إسلام البيزنس”، إسلام البازار والأسواق، وكثير من رؤوس الأموال الطافية، والباحثة بيقظة عن أي فرصة استثمارية سريعة ومجزية، في أي بقعة من العالم. وهو إسلام معتدل ومحافظ، يميل إلى التسامح الواسع في الشأن العام، وإلى التشدد في الشؤون الفردية الخاصة، يشكل العامود الفقري للمجتمع المدني في البلدان الإسلامية عمومًا، والعربية تحديدًا، وله مصلحة حيوية في الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي. نجد أنموذجه الأعلى في “حزب العدالة والتنمية” الحاكم في تركيا، وفي طبيعة مشروعاته وإصلاحاته وسياساته الداخلية والخارجية. وهو الإسلام الذي حاولت “جماعة الإخوان المسلمين” الاقتداء به، حين أطلقت “مبادرة الإصلاح الشامل في مصر” عام 2004، والمبادرة المماثلة في سورية عام 2005.

أما الاتجاه الثالث فهو الإسلام الأصولي الطالباني العنفي، بأجزائه وفئاته وتنظيماته المتفرعة. عقيدته الأساس هي: “الحاكمية”، ومنهج عمله شبه الوحيد هو “التكفير والتفجير”. ويرى العظم أن أطراف “الإسلام السياسي” الثلاث تتصارع فيما بينها، من أجل ضبط معنى الإسلام نفسه، وتحديد تعريفه، والهيمنة على فحواه وطبيعة تطبيقاته.

اقتحم “الإسلام السياسي”، باتجاهاته وصراعاته المختلفة، ساحات “الربيع العربي”، ولا سيما في سورية، حيث نجد “إسلام البترودولار” الرسمي بنموذجيه السعودي والإيراني، وإسلام “التكفير والتفجير”، و”إسلام البيزنس” على النهج التركي، وإن كان في حالة كمون نسبية، كما نجد “إسلام الدولة الرسمي” الذي اضطر إلى إعلان الجهاد المقدس لحماية نفسه ونظامه، الذي يدعي بأنه العلمانية الوحيدة في المنطقة. ولا يعتقد العظم، أن أيًا من هذه التيارات المتناحرة، سيتمكن من اكتساح نتائج الانتخابات، حين توصلنا الثورة إلى صناديق الاقتراع.

في رده على الآراء التي تحاول تشويه صورة الثورة السورية والتشكيك بعدالتها -متذرعة تارة بأنها حرب أهلية، وأخرى بأنها حرب لإبادة الأقليات- يدحض العظم فكرة أن جوهر الصراع في سورية طائفي أو أهلي، لأن الطوائف الرئيسة في البلد، لم تتسلح لتحارب بعضها بعضًا، ولأن مناطق الأقليات هي الأكثر هدوءًا وسلامة. الفاعل الرئيس هو النظام الذي سخّر جميع أجهزة الدولة وموظفيها ومواردها وترسانتها الحربية، للانقضاض على الشعب السوري، الذي طلب الحرية، وهو بأكثريته وأقلياته بحاجة إلى حماية حقوقه المدنية والإنسانية.

اما الحديث عن “لعبة الأمم”، وتصادم مصالح الدول العظمى والمؤامرات الكونية، الذي روّج له قسم لا بأس به من اليسار العربي والدولي، فهو خطاب يهدف إلى تجاهل دماء الضحايا، وطمس الأسباب الداخلية التي دفعت بالشعب السوري إلى الثورة السلمية، ثم إلى حمل السلاح في وجه الديكتاتورية الوطنية، والبطش العروبي الممانع.

وليس انتماء المفكر الراحل صادق جلال العظم (1934-11 ديسمبر 2016) إلى الثورة السورية، سوى المحطة الأخيرة من عمر قضاه في الدفاع عن حرية التعبير، والحق في الانتصار على الغيبيات والأضاليل التي تلجم التفكير.




المصدر