قابيل على قبر هابيل من جديد

24 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
6 minutes

حافظ قرقوط

ولمِ لا يرقصون ويفرحون ويُطلقون العنان لأجسادهم، وأبواق سياراتهم، وفوّهات بنادقهم لوضع بصمة الزمن والهوية والفعل والفاعل.

هناك في بلاد حملت ذاكرة القيْح، وفي مدنٍ تراكم في شوارعها وأركان ساحاتها عفن التاريخ، وأحاط بها الذباب يُزاحم أنياب التوحش، حيث اجتمع العبث المسرحي مع المسرح الدموي، ورسموا ديكور العرض الأخير باسم “قابيل وهابيل”.

في بلاد الشام السرمدية، حيث اللهجة أصبحت هوية، والضحكة مناطقية، والجلباب مرجعية، والدبكات استفزازية، والبشر مشاع بلا وطن، هطل المطر كزخّات رصاص على الخلايا، فتكشّف الصدر عن عورة الزمان والمكان وما بينهما.

سقطت حلب، أو تحرّرت، أو عادت، وكثير غير ذلك من مصطلحات البحث عن قضية وشعار، أو عن وجه مرآة، لا يقول للعامة أن الصورة بهتت وحلب تدمّرت.

سقطت بلاد الشام جميعها لعقود وعقود مقبلة، ليس في كبوة فارس، وإنما في لزوجة وحلٍ تكدّس دفعة واحدة على أنف الحقيقة، فبدت مُعتلّة الأول والآخر، في بلاد كان أطهر ما فيها دمعتها، وأصدق ما فيها صقيع العاطفة، حين تجمّدت الدموع وتشقّق الجسد، ليبدو المشهد جامدًا كما هو، فأصبح هاجس حمص بحجمها الكبير، كهاجس مدينة صغيرة هي داريا، وكلا المدينتين، كهاجس تلك الأماكن التي تُحيط بجبل ومقام النبي هابيل على كتف دمشق، فظهرت حلب بامتدادها العاطفي والمكاني، كخيط عنكبوت يُغلّف الخراب، كلّ خراب، إن في الروح أو الجسد.

في مقام البحث الجلل عن واقعة وخبر، تُصبح لغة الكتابة السياسية والميدانية بيدنا، فارغة جوفاء، والخبر يقول: احتفلت حلب الغربية بجثة حلب الشرقية، إنه خبر وكفى، وخلفه عنوان يقول لك: احتفلت ساحات دمشق بسبي شرقي حلب لصاحب جنون العظمة بوتين، فبارك “القائد الفذ” بشار الأسد زواج المتعة هذا، وانتشى كاتب عقد الإشهار ملالي إمبراطورية الموت القادم من الشرق، خامنئي وشركاه، ولم يقل أحد إنه اغتصاب السكير والعربيد والحشاش لعظمة الأماكن والأرواح، فصرخت حلب بصوتها المدوّي، كي يهمّ فارس بني عبس، أو بني حمدان، أو بني صلاح الدين، أو ربما بني أيّ آدمي، ليستر عريّ الفضيحة الشرق أوسطية، فضيحة التاريخ والرئيس والجغرافيا والتلاميذ والشيخ والقس وكاتب المحكمة ودكتور الجامعة وبائع المحن والشعارات والكتب، فذاب الصوت بمجرى نهر قويق، يرسم جثث الماضي القريب لمدينة تمزّقت، فانتخت بقية المدن الحاضنة لدولة اسمها “سورية المفيدة” في العرف الحاضر والميدان ومجلس الأمن وجامعة العرب، ونزلت بعض رجولتها وأنوثتها لساحة الدبكة، ورقص الجميع على مشارف بيت الشّعر القبلي، حين التهبت نخوة داحس والغبراء، فأبرق ستيفان ديمستورا للسوريين، أن جهّزوا الأكفان لتلمّوا لحم إدلب.

نكتُب سياسة فيُدمينا الحدث، فنهرب لوصفه بالألوان فتجرحنا الصورة، نتجاهلها كي ننجز التوصيف، فترشقنا الأحرف بالأشلاء الآدمية، نتحايل على المفردات فتنهار المشاعر دفعة واحدة، ويُصبح الخبر الفاقع صديقًا للقحط، فنكتبه بلا إضاءة فلاش، بكلماته التي تقول: ميليشيا “حزب الله” تتفقد، و”النجباء” العراقية وبضعة ضباط روس، أحياء حلب الشرقية، وستبدأ حملة تمشيط لذكريات السوريين، علّها تضع يدها على دعاء أمّ لابنها، أو أغنية خبأها مراهق لحبيبته على ستارة نافذة، أو ربما مشط تلميذة مركون على جانب مرآةٍ مراهقةٍ تترقّب صباح المدرسة.

حملة تفتيش عن بقايا خبز ربما، أو رقصة حلبية على وقع “يا مال الشام” وصوت صباح فخري، نكتب الخبر والتحليل؛ فترتجف الأصابع حين ترسم ظلال الشرفات، ويرتعد القلب مع تخايل صلاة الفجر قُبيل العيد، وصدى أجراس “دير وارطان”، في الكنيسة الأرمنية على قدوم أعياد رأس السنة. أين أنتم، تصرخ بقايا الأماكن، فتدخل حملة التفتيش آبار المياه ومُقل العيون التائهة في الفراغ، ويفرح قابيل بدبكات اللهو على قبر هابيل، ومن اللاذقية وطرطوس تُطلق أبواق السيارات جعيرها، فتجيبها دمشق والسويداء بزخّات الرصاص الراقص نحو السماء.

لا أحد هنا سيدي، يقول اللبناني للعراقي، فيتقدم المترجم الروسي وينقل الخبر للضابط المشرف، أن رحل أهل البيت والشرفات والمقاهي ومقاعد المدرسة وبائعو الحلوى، وبقي هناك في بعض البيوت عدّة دمى خشبية صغيرة، يبدو أن أصحابها قد درسوا في جامعات روسيا يومًا ما وجاؤوا بها ذكرى، فلنعدْها إلى بلادنا سيدي، لا أطفال هنا ولا أُسر، بل صوت الزمهرير وصداقات شعوب أصبحت أبرد من صقيع الشمال وزحف الدببة، وحُطام الموائد التي خلدتها مدينة ستالين غراد على جثث الآدميين هنا في حلب، وهنا على ناصية التاريخ الذي أعاد الشام كلها، إلى ما يُشبه التكوين الأول، والخربشات الأولى للأبجدية.

يقول الخبر الأخير، العاجل، إن منظمة التعاون الإسلامي رأت فيما جرى بحلب، ما يرتقي لجرائم حرب، ويقول الخبر الآخر والصورة، إن قوات الجراد في حلب، تحتاج لعشرات المترجمين، كي تتعارف كل وفود المرتزقة على بعضها في غياب أهل البيت، وأهل البيت كانوا آلاف الضحكات وآلاف الأرواح ومثلهم أحلام، وآلاف من الأيتام حيث تقول الآية: “فأمّا اليتيم فلا تقهر”، وهكذا يُصبح تصحيح الخبر بدقة التاريخ أمام مؤتمر التعاون الإسلامي، مغادرة آخر الشهقات مع صلاة الفجر، لشرقي عاصمة الثقافة الإسلامية حلب، فيما يُعتقد -بحسب التوصيف- أنها قد ترقى لجريمة حرب -شكرًا لكم- تقول حلب.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]