‘يوسف عبدلكي: الثورة هي فن صناعة الأمل’

24 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
10 minutes

يوسف عبدلكي فنان تشكيلي، ولد في القامشلي- سوريا عام 1951، اعتقله النظام السوري في السبعينيات لمدة عامين بسبب نشاطه السياسي في حزب العمل الشيوعي، ترك سوريا إلى فرنسا لمدة ٢٥ عاما، ليعود إلى بلاده عام 2005، مختارا أن يعيش بين أبناء بلده، الذين ما لبثوا أن ثاروا على الأبد البعثي. عبدلكي اعتقل مرة ثانية في صيف عام 2013 لمدة شهر تقريبا. فيما يلي هذا الحوار معه:

وليد ضو: ما هي قراءتك لمجريات الثورة السورية، منذ اندلاعها وحتى يومنا هذا؟ 

يوسف عبدلكي: الثورة السورية… سورية بامتياز.

كان من المأمول بعد أربعين عاماً على سلطة القمع والاستبداد ونهب الثروة الوطنية أن يثور السوريون عندما لمسوا بارقة أمل تلوح من شواطىء تونس ومن سفوح أهرامات مصر. وهذا ما فعلوه بارادتهم الحرة وبشجاعة ما بعدها شجاعة.

وما جهدت السلطة السورية على بثه من أن الثورة هي مؤامرة خارجية، ليست إلا جزءاً من حرب إعلامية على  شعبنا.

من نافل القول اليوم أن النظام حاول منذ الأيام الأولى للثورة تسليحها وتطييفها؛ ذلك لأنه يعرف أنه الأقوى في الميدان العسكري، ولاعتقاده أن تطييفها سيجر الطوائف إلى جانبه… والحقيقة أنه “نجح” في هذين المسعيين بدرجات. غير أن التسليح انقلب ضده عندما تدخلت دول الإقليم في الصراع تمويلاً وتسليحاً، وهذا ما فوّت عليه تكرار مجزرة حماه 1982 وما تلاها من اخماد كل صوت معارض لعقود.

لكن الأمر لم يقتصر على ضفة النظام فقط. بل امتد سيف التسليح والتمويل الخارجي إلى الثورة نفسها؛ وغيّر من طبيعتها، إذ حولها بعد أشهرها الأولى الناصعة والباسلة إلى أداة في يد دول الأقليم ودول العالم!! وهكذا تحولنا من ثورة شعب يرفع صوته مطالباً بحقوقه في الحرية والعدالة والكرامة والمساواة والديمقراطية، والتي طالما مسحتها الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية بأحذيتها في العقود الماضية إلى حرب إقليمية ودولية على الأرض السورية وبالدم السوري… ولأهداف غير سورية. لنتذكر أنه طوال السنوات الثلاث الماضية لم نسمع بأي من شعارات الشباب السوريين في الأشهر الأولى للثورة!! هل هذه مصادفة؟!

اليوم يجد الشعب السوري نفسه محاصراً بين نارين: نار النظام الذي خَبِر استبداده على مدى عقود، ونار عشرات المجموعات المسلحة بما فيها جبهة نصرة وداعش وجيش الاسلام… إلخ والتي لا تكف كل يوم عن السعي لإعادة تدوير استبداد النظام… بل فاشيته.

تجاه ذلك، تجاه القتل والتدمير والاعتقال والتهجير وتدمير النسيج الاجتماعي وتحطيم بنية الدولة، ليس للسوريين إلا أمل واحد: الخلاص من كابوس الموت والدمار المحدق بهم جميعاً. غير أن السياسة ليست أمنيات، إنها توازنات قوى… وليس سراً أنه ليس في سورية اليوم قوة فاعلة تعبّر عن هذا الأمل وتملك الإمكانات المادية لهزيمة كلا العدوين.

إذا كان الفن محركا أساسيا لمواجهة النظم الاستبدادية، في إطار الثورات التي تعمّ المنطقة، هل بإمكاننا القول أننا نتجه، اليوم، نحو فن ثوري حر (كما دعا أندريه بروتون ودييغو ريفييرا)؟

الفن معبّر عن آلام البشر وأحلامهم. وللأسف لا أعرف أية تجربة في التاريخ كان فيها الفن “محركاً أساسياً” كما جاء في صيغة السؤال.

غير أن الثورات العربية فعلت ما هو أهم من تحرير الفن: حررت المجتمعات من كابوس الخوف الذي جثم على صدورها في العقود الماضية. اليوم نحن أمام قفزة في الوعي السياسي، وقفزة في التحرر من رهابات الماضي… وأظن أن ذلك سيوسّع مساحة الحرية أمام تعبيرات الثقافة، وسيحرر منتجي الثقافة أكثر من أية لحظة ماضية، ويمكن أن نلمس ذلك ليس في أشكال التعبير الفردية (الشعر واللوحة) بل حتى في المسلسلات التلفزيونية التجارية التي عادة ما تراعي قوائماً لا تنتهي من المحظورات.

كيف تقرأ موقف اليسار من الثورات الجارية، وخاصة تجاه الثورة السورية، وما هو المطلوب اليوم من اليسار المنخرط في السيرورة الثورية؟

التبسيط… التبسيط المانوي! هذا ما نلحظه في مواقف اليسار العربي و اليسار العالمي: مع وضد! مقارنة الخير بالشر! الخيار بين السيء والأسوأ! ولا أحد يطرح موقفاً أبعد من مقارنة استبداد النظام بفاشية داعش! لا أحد يطرح السؤال الوحيد الجدي: حقوق الشعب السوري: حقه في حياة كريمة، ودولة مؤسسات، ومواطنة حقّة، ومساواة، وعدالة اجتماعية، وحقوق انسان، وتداول للسلطة، وديمقراطية، وتنمية تكفل الاستقلال، وتعليم عام، ورعاية صحيّة… إلخ، ولا أحد يسأل لماذا لم يتحقق أي شيء من ذلك رغم وجود السلطة التي يؤيدونها ـصراحة أو مداورةـ على رأس الدولة لمدة أربعين عاماً!

أظن أنه على اليسار في سورية، أن يكون في طليعة شعبه الساعي للخلاص من كابوس الحرب الاقليمية والدولية ذات المسحة الطائفية.

عليه أن يعرف أعداء شعبه: النظام واستبداده من جهة، ومن جهة ثانية جملة القوى والمجموعات المسلحة المرهونة للخارج، والمسلولة بالطائفية، والواهمة بإعادة التاريخ إلى الوراء، والمهجوسة بالثأر، والتي لا تحمل لبلادنا إلا مشاريع استبدال القهر بالقهر، وتعميم الفاشية الدينية، وقطع الصلة مع تاريخنا، ومع حقوق مواطنينا، ومع كل انجازات البشرية على مدى عشرات القرون.

عليه أن يؤكد كل يوم على حقوق شعبنا في مستقبل ديمقراطي لبنته الأساسية العدالة الاجتماعية.

كفنان سوري، عاد إلى بلاده بعد سنوات طويلة من المنفى، وشهدتَ اندلاع الثورة، وشهدتَ رحيل الكثير من الفنانين والمثقفين عن سوريا، لماذا رجعت؟ 

لا يبدو لي هذا السؤال صحيحاً. الصحيح أن أرجع إلى بلدي. هذا حقي. حق كل مواطن في كل بلد. هنا ولدت، وهنا عشت ثلاثين عاماً، وهنا تعلمت، وهنا رسمت، وهنا انخرطت في العمل السياسي، وهنا أُحطت بالأصدقاء، وهنا حلمت بالعدالة، وهنا سجنت، وهنا سجن رفاقي، فأين لي بمكان خير من هذا أكون فيه أنا!

ليس سرّاً أن البلد اليوم يُستنزف من طاقاته الحيّة، من نشطائه السياسيين، ومن مثقفيه، ومن متعلميه. الحرب طاردة للمواطنين الباحثين عن الأمن، وعن حياة… شبه كريمة. ماذا يعني الوطن إذا فقد الإنسان الأمن وإمكانية العيش والعمل!

البارحة خسر العراق الملايين من أبنائه الأكثر كفاءة في كل الحقول. اليوم يعاد الأمر نفسه في سورية.

يريدون- يريد الأميركيون- أن تُفرّغ بلادنا من طاقاتها… وأن لا يحكمها في المستقبل إلا عبيد الامبرياليين أمثال حكّام الخليج، إلا سياسيين صغار تحكمهم الوضاعة والعصبية الطائفية والمكاسب الصغرى.

من غيرنيكا بيكاسو، مرورا بكتاب “غيرنيكا بيروت – الفن والحياة بين جدارية لبيكاسو ومدينة عربية في الحرب” لفواز طرابلسي، وصولا إلى نص “حمير الآخرين” لأسامة محمد، أين ستكون سوريا غدا؟، وبالتالي أين يكمن الأمل؟

الأمل… آه من هذه الكلمة… كم دفعت الانسانية في سبيلها، وكم دفعت الشعوب في سبيلها، وكم دفع الفقراء والعاملون والفلاحون والمهمشون في سبيلها! وكم دفع الشباب السوريون- سجناً واعتقالاً ونفياً وشهادةً- في سبيلها!

بعيداً عن مرارة العلقم التي تصيب المرء كلما بلع ريقه، أعتقد أن لا شيء يمكن أن يعـود مثلما كان. ولو

انتهت- بقدرة سحرية مثلاً- كل الأعمال العسكرية اليوم، فإن بلدنا تغير ونمط إدارة الدولة بالعنف العاري هُزم إلى غير رجعة.

دفعنا الكثير: ملايين المهاجرين واللاجئين، مئات آلاف الشهداء ومثلهم من المفقودين، وأكثر منهم من المعتقلين، كل ذلك ليس مجاناً، ولا يمكن أن يكون مجاناً؛ وما فعله مبارك مثلاً بالمجتمع المصري، لا يمكن لأي حاكم جديد- مهما تعبقرت شطارته- أن يفعله، لأن الثورة أحدثت نقلة نوعية في مستوى الوعي ومستوى الحرية والجرأة على المطالبة بالحقوق… الأنظمة العسكرية التي بنت هيمنتها على العنف السياسي، وعلى شعارات مضللة، هذه الأنظمة أصبحت بائدة. منتهية مدة الصلاحيّة. لا يمكن اعادة انتاجها. مرت مجتمعاتنا بعدة مراحل على مدى قرن: مرحلة الاحتلال، مرحلة الاستقلال، مرحلة الأنظمة العسكرية… واليوم نحن ننتقل إلى مرحلة جديدة، ننجز فيها شيء من متطلبات الدولة الحديثة، شيء من متطلبات الدولة البرجوازية… كل الماضي أصبح وراءنا. حتى لو ما زالت الحرب في سورية مشتعلة، حتى لو لم يتبين للآن الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

هَمّ السوريون اليوم هو الخلاص من الحرب، وعندما يتحقق ذلك سنلمس مدى التغيير العميق الذي حدث في علاقة المواطن بالسلطة وبالدولة. الرهان هو على وعي البشر، وتدليلهم- بأجسم التضحيات- أن التغيير حصل، وأن وعيهم وتحررهم السياسي هو الذي سيصوغ غدهم، ولا يمكن لأي سلطة بعد اليوم أن تتجاوزهم، فلقد حطموا بالدم كل القلاع التي بنتها لتنظيم قمعهم ونهبهم وتدمير إرادتهم كبشر ومواطنين.

نشر في‫:‬الخميس, نيسان 23, 2015