منصات تحت الطلب… مصائب قوم عند قوم فوائد


جمال الشوفي

لم تتوقف الحرب بعد، والثورة لم تثمر أيضًا، ولا النظام بحلفائه استطاع الحسم العسكري، على الرغم من سحق حلب! وربما يُحاول كثيرون تحميل اللقاء الروسي – التركي – الإيراني كثيرًا من نقاط التفاهم العريضة حول الملف السوري، لفاعلية الأطراف الثلاثة فيه فاعلية قوية، وذلك بعد تراجع الدور الأميركي لفترة، ما بين التسليم والاستلام، بين رئيس راحل وآخر قادم. فلا عجب أن ترشح على السطح بين هنا وهناك منصات جاهزة للعمل السياسي، في استعجال حلول سياسية عجز السوريون عن وضعها طوال الفترة الماضية! فهيئة الحكم الانتقالي تبدو محط افتراء سوري ولا تُقدّم حلًا لها! والعدالة الانتقالية تبدو مجرد أرجوحة في فراغ المغامرات العسكرية! وكل ما بذله السوريون من دماء مجرد أفلام مُصوّرة في استوديوهات القوى الإمبريالية العميلة وغيرها المتآمرة على دمار سورية وخرابها! وبين هذا وذاك يمتلئ الفراغ السياسي بمنصات مُعدّة سلفًا للعمل بوتيرة متناغمة بين طيات الحلول وراسميها.. وأي حلول لمصائب قوم هي فوائد لغيرهم!

هو سباق الزمن السياسي واستعجال الحلول الممكنة إذا، هكذا يردد المراقبون، وربما يكون هذا حقيقة المشهد، خاصة بعد أن استفردت موسكو بموضوع الحل والربط عسكريًا وسياسيًا في سورية منذ بدء الانتخابات الأميركية، وقد أجهزت على مدينة حلب، بوصفها معقلًا من معاقل الثورة الأكبر. يبدو هذا حقيقة إلى اليوم، لكنه ذو مؤشرات عدة أهمها:

– ليست المرة الأولى التي تستفرد بها موسكو بالملف السوري، سواء بحلولها العسكرية المباشرة، أم بفيتو صريح يرفض أي إجراء دولي خلاف ما تراه أو تقرره مصالحها.

– تقارب الأفكار والرؤى المتباعدة بين أطراف اللقاء الثلاثي (الإيراني – الروسي – التركي) لا توحي باتفاق تام قط، سوى بملء فراغ سياسي للإدارة الأميركية، تراه الأطراف الثلاثة المتنازعة فرصة لاستعجال فرض شروط الواقع، قبل عودتها للحلبة في بدايات 2017.

– المؤشر الأوضح في هذا السياق هو تغييب أي حلول سورية بمرجعيتها الأممية، خاصة المتعلقة بقرارات الأمم المتحدة، ولا سيما قرار مجلس الأمن 2268 لعام 2016، وقبله قرارات جنيف 2254 و5201 القاضية بتشكيل هيئة حكم انتقالي كامل الصلاحيات في سورية والالتفاف عليها، ويبدو أن هذا استنتاج طبيعي للوهلة الأولى في ظل موازيين القوى على أرض الواقع.

لكل من روسيا وإيران وتركيا، وبخلفية المشهد أميركا، مصالحه في المنطقة يتنازعون أو يتفقون عليها، وهو شأن الأمم تاريخيًا، لكن المثير للاستغراب، ولم يعد كذلك، هو سرعة المكنة السورية بمنصاتها السياسية “الماضوية” بالتحليق والجري خلف أي حلول مفترضة، كمن يقتنص الفوائد ولو من خلف كارثة إنسانية كبرى! وماضويتها لا تعني سلفيتها الدينية البتة، بقدر ما تعني تمترسها وانغماسها في أيديولوجيتها السياسية والحزبية الضيقة والذاتية وحسب.

فالترويج السريع من قِبل موسكو للقاء الأستانة، ذات المدينة التي جمعت يومًا، ما يسمى لليوم “المعارضة السورية الوطنية الشريفة” -وكأن لا أحد وطني سواهم- تحت عنوان منصة الأستانة! بذات الشخوص الفاعلة تقريبًا، التي التقت في منصة حميميم وموسكو والقاهرة وغيرها، مع تباينات فردية طفيفة، هي منصات تحت الطلب وبالجاهزية القصوى، لا لأنها مأجورة أو متآمرة كما يحلو للكثيرين التوصيف، فمعظم من يعملون فيها -ومنهم من خاض غمار الثورة بزخمها- هم فعليًا معارضون وأصحاب رؤية سياسية وهذا حقهم، وربما يرون ما لا يرى غيرهم؟ لكن ليس كل العمل السياسي عمل بشؤون البشر وحاجاتهم العامة وأبسط حقوقهم، فهو بإحدى صيغه النفعية البراغماتية التي لا ترى سوى ذاتها ومصالحها فوق الجميع.

نَقَدَ عبد الله العروي في كتابه “العرب والفكر التاريخي”، الليبرالية الجديدة في الولايات المتحدة، ورأى ما يُماثلها عربيًا، في نقاط أربع: الفوضوية التي تشخصن كل القضايا على قدر الفرد ورؤاه الذاتية، الفرويدية في التشخيص النفسي والتعالي الذاتي، الشكلية الصورية الكلامية بلا مضامين أو هوية معرفية محددة، والسريالية الطوباوية في رؤية الواقع. لكنه لم يدرج معها النفعية التبريرية المتصالحة مع مربع الذاتوية الذي نقده. من هذه الزاوية السياسية يمكن محاكمة موضوع الحلول القسرية التي يجهد الروس في فرضها سريعًا، فالحلول العسكرية وحدها لا تكفي، وبالضرورة يجب وجود حوامل سياسية تقبلها، وشرط وجودها أن تعبر شكليًا وصوريًا عن معارضتها للنظام، وأن تتبنى كلية مصالحها النفعية في تحقيق مستقبلها السياسي لا بمصالحة النظام المتهاوي مباشرة، ولا بتنازلات للمعارضة السورية أيضًا، بل بالعبور نحو مركز القوة والغطرسة الذي يُمارس كل صنوف القتل والجريمة في حق الشعب السوري بأطيافه كافة. ولا تقف المسألة هنا، بل تتعدها لتلك التبريرية الفجة: لم تنجح المعارضة بقيادة المركب السوري، ومفتاح الحل وضعته أميركا، القوة العظمى، بيد روسيا!! فماذا لو عادت أميركا لواجهة الحدث السوري؟

ثمة إجابات فاضحة في المسار السياسي للمسألة السورية، تتكثف دوليًا وإقليميًا بمحاولات الروس الدؤوبة التي لا تتوقف، وتستعمل كل مفاعيل القوة العسكرية والسطوة الدبلوماسية الدولية، لتحييد قرارات الأمم المتحدة التي حاولت إنصاف الشعب السوري وقدمت حلًا سياسيًا للمسألة السورية عامة، واستبدالها بمنصات سياسية بديلة تقصي نصف الحل السياسي بما فيه المعارضة بما تمثله، وأهم من هذا كله تفرض شروط عمل الواقع المجحف والكارثي بصورة سياسية خارج كل المعايير والقيم الدولية ذات الصلة.

في الضفة الأخرى، تتضح وتبرز للعيان ولليوم، موضوع التحاجز اللامنتهي بين واقع سوري عام يشهد ثورة عارمة، ومأساة قرن في كوارث التهجير الممنهج والتدمير والقتل اليومي، و”علمانية” واهية كلامية مفرطة في النفعية، ومتخارجة مع كل جذور العلمانية وتاريخ تشكلها وتطورها في بلدان المنبع، بلدان عصر الأنوار، حين تطورت حلقاتها رويدًا من مناصرة الثورة بكل تعييناتها، للوصول لحلول عامة للمجتمع والدولة الوطنية، فالحرية والمساواة والعدالة لم تكن شعارات كلامية ولا أنموذجات فرويدية نفسية، ولا أحلامًا وردية، بل كانت عقدًا اجتماعيًا عامًا بالتراضي والقبول بين الكل المجتمعي، هي حرية الكل وعدالة القانون للكل ومساواة الجميع في القيمة والمواطنة. فلا يمكن لهذه الشعارات أن تتحول إلى نقاط استعداء من قبل الشعب السوري الكليم الذي يلملم شتات جراحه وموتاه، وتعداها، لموت مدن بأكملها، فهي المنبع والمنبت الذي خرج به بثورته أساسًا، ليجد أمامه تحالف يطلق شعاراته نفسه ويتحالف مع قاتليه، بصورة نفعية لا تشي بمحتوى شعاراتها المدنية والعلمانية أبدًا، بقدر ما تبرر بوجود منصات تحت الطلب تترقب فوائدها السياسية الذاتية المحضة، كالمثل القائل مصائب قوم عند قوم فوائد.

هي سياسة القوة -إذن- وحواملها، مهما برروا سياسيًا، ومهما حملوا من نزعات إنسانية وشعارات تفيد بضرورة إيقاف الدم السوري، فهي بميزان الثورات والتاريخ الإنساني حق يراد به باطل، وباطله المُعلن والفج أن هذه المنصات يخبو صوتها ردحًا من الزمن؛ لتعلو حين تحقق الغطرسة الروسية تقدمًا عسكريًا على جبهة من الجبهات، ويحدو الجميع سؤال: ماذا لو خسرت روسيا موقعًا وعادت أميركا إلى ساحة المنطقة في قريب الأيام؟ هل ستعبر تلك المنصات لموقع آخر؟ فبين العلمانية والنفعية نقاط التقاء، لا شك، لكن ثمة خلاف جوهري في العمق، هو مفهوم الكلية وتعييناته العامة، هي الكلية السورية ومأساة شعبها كله، لا جزءًا منه هنا وآخر هناك، تقضي النفعية المقززة إعادة فكه وتركيبه!




المصدر