يأس أم بؤس!؟

25 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
6 minutes

غسان الجباعي

الثقافة لا تستطيع أن تكون “شريرة أو بشعة”، وهي -قبل ذلك- لا يمكنها أن تكون فئوية أو عنصرية أو نازية أو طائفية أو صهيونية! بل منحازة -بالضرورة- للجمال والحياة الكريمة والقيم العليا للبشرية. وهي -كما عبر جوليان بندا- “ضمير البشرية الأخلاقي”. إنها “صندوق الدنيا” وخزنة الروح والمعرفة والحلم والخيال. وعلى المثقف –أولًا، وقبل كل هذا- أن يكون مثقفًا ثقافته حقيقية عميقة وشاملة، لأن المثقفين هم الورثة الحقيقيون للثقافة الإنسانية، وهم الأمناء عليها المؤمنين بها الحافظين لها. وكما يجب على المثقفين أن يكونوا منتجين للقيم المعرفية والجمالية والأخلاقية السامية؛ قيم الخير والعدالة والحرية والجمال والمعرفة… يجب عليهم -أيضًا- أن يكافحوا من أجل إعلاء تلك القيم، يذودون عنها، ويعيدون إنتاجها وحمايتها كل يوم وكل جيل؛ فالثقافة لا تعرف القنوط واليأس في تكريسها لتلك القيم وحراستها دون هوادة. ثم إنها لا تستطيع أن تكون رمادية أو محايدة اتجاه ما يحدث حولها؛ بل منحازة للحقيقة والحق والعدالة؛ انحيازًا مثابرًا وبطوليًا، تقف فيه بشجاعة ضد الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والتطرف والتعصب الديني والاثني، واعتداء الأقوياء على الضعفاء، سواء أكانوا أفرادًا أم جماعات.

وهذا كله لا يُمارسه المثقف إلا من خلال القوة الناعمة: الكلمة والحوار والإقناع، والتفاعل الحقيقي مع الناس، والدفاع عن حقوقهم الأساسية وشجونهم الحياتية والروحية؛ تدعم كفاحهم من أجل الحرية، وتقف إلى جانبهم ضد البطش والذل والطغيان والعبودية. وهكذا يجد المثقف –بدوره- من يدافع عنه ويحميه؛ فلا أحد يستطيع أن يحمي الثقافة والمثقفين إلا الناس.

إن اليأس حيال الثورة السورية بات ظاهرة واضحة في أوساط المثقفين، وبخاصة المبدعين المؤيدين للثورة؛ سواء كانوا كتابًا أم شعراء أم فنانين تشكيليين… قد يكون هذا اليأس مشروعًا بوصفه حالة آدمية، لكن أن ينحاز المثقف اليائس لكل هذا الظلم والقتل والتدمير والفاشية، فهذا ما لا يمكن فهمه أبدًا!

بعضهم كان شجاعًا لدرجة أنه رفع راية إحباطه صراحة، ساخرًا من الدنيا وما عليها، والبعض عبّر عنه مواربة وتقيّة، ساكبًا دموع الحسرة والندم، على ما يحدث لشعبه وبلده من موت ودمار، متمنيًا لو أنها لم تكن، محملًا الضحية المسؤولية، بينما لاذت الأغلبية بصمت عجيب ومريب، بعد ضجيج مجلجل وحماسة صاخبة. لكن الجميع اتفقوا على حجة واحدة هي أن الرايات السود احتلت السماء والأرض، وأن الثورة سُرقت وانحرفت عن مسارها، وابتعدت عن أهدافها الأولى: الحرية والكرامة وبناء الدولة الحديثة و”استعادة الجمهورية” ومؤسساتها المدنية؛ كما لو أن ما شاب الثورة السورية من عيوب شيء غريب، لم يحدث قط في ثورات الشعوب عبر مسيرتها!

الباحثون والنقاد الغربيون -وكذلك العرب- تباينوا حول تعريف المثقف واحتاروا في أمره؛ لأن الثقافة -بطبيعتها- متنوعة، ولأنهم مختلفين -أصلًا- حول الهدف منها ووظيفتها. بعضهم قدّر دور المثقفين واعتبره جوهريًا في حياة المجتمعات ونهضتها، ومنهم إدوارد سعيد، الذي بيّن في كتابه (المثقف والسلطة) دور المثقف ووظيفته، مركزًا على ضرورة أن يمتلك وعيًا نقديًا لتفسير الواقع. وبعضهم هاجم المثقّفين هجومًا عنيفًا، مثل جوليان بندا J. Panda، في كتابه (خيانة المثقفين) والذي أخذ عنوانه، من وصف لينين الشهير للمثقفين: “أقرب الناس إلى الخيانة هم المثقفون، لأنهم الأقدر على تبريرها“.

لا نملك الحق أبدًا بتخوين أحد من مبدعينا، وبخاصة إذا كنا أمام شاعر جيد أو تشكيلي عريق أو روائي مهم، لكن السؤال المُحيّر حقًا: لماذا ثبت أشباه المثقفين الموالين للنظام، في مواقفهم ومواقعهم، بينما كان ذلك صعبًا على بعض المعارضين!؟ هل لأن موقف الموالين أكثر انسجامًا وتماسكًا؟ أم لأنه الأكثر سهولة!؟ هل لأن مثقفي السلطة أطول نفسًا وأكثر قوة وقدرة على التأقلم، أم لأنهم يستفيدون من هذه المواقف ويقبضون أثمانها؛ بينما يعيش المُعارضون حالة من القلق والتردد والخوف على أنفسهم، ويتوجب عليهم أن يدفعوا أثمانًا باهظة لقاء موقفهم؛ أقلها عقوبة التهميش أو السجن أو التشرد، وأكثرها عقوبة الاغتيال أو الموت تحت التعذيب!!؟

لا جواب لهذه التساؤلات؛ ولا وقت لتدبيج المراثي أو تأنيب المثقفين القانطين! ولست أنا ولا أنتم، من يبتّ في أمر كهذا؛ بل المستقبل والأجيال المقبلة. فالمثقفون كانوا وما زالوا وسوف يظلون ظاهرة مهمة في أي ثورة اجتماعية أو منعطف مصيري.

ما أعرفه جيدًا هو أن المبدع أو المثقف -عمومًا- لا يملك الحق في خذلان شعبه والوقوف ضد تطلعاته المشروعة في التطور، مهما كان الوقت عصيبًا. ويأسه هذا، لن يكون إلا بؤسًا يقع فيه، عندما يفقد البوصلة ويتحول من مثقف حر حقيقي، إلى أداة طيعة بيد الاستبداد وأهدافه، سواء كان ذلك بإرادته أو بإرادة غيره.

الأولى بالمبدع أن يخجل ويصمت –ولو لفترة قصيرة- إذا فقد الأمل بنفسه أو فنه أو شعبه، وقرر الانقلاب على تراثه ومشروعه وروح إبداعه، إن كانت لديه بقية من حياء أو ضمير.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]