اقتصاد يبيض ذهبًا.. الرواية التي لم تصمد كثيرًا
26 ديسمبر، 2016
علاء كيلاني
لطالما عزت السلطة في سورية صمود البلاد أمام الضغوط السياسية الخارجية التي تعرضت لها، خلال العقد الأخير من حكم الأسد، على أنه قصة نجاح اقتصادي، بدأ مع الاكتفاء الذاتي من بعض المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، في مقدمتها القمح، المادة الأساس للنمط الغذائي على مستوى البلاد، مرورًا بتطور قطاع الصناعة، الذي شهد نموًا استثماريًا بطيئًا في مجال الصناعات الخفيفة والمتوسطة، وانتهاءً بقوى السوق التي يُسيطر عليها -سيطرة أو أخرى- القطاع الحكومي.
أُمكن لهذه القصة أن تصعد إلى واجهة الإعلام، وأن يجري تداولها على نطاق واسع، ليس على مستوى القنوات الرسمية فحسب، التي تُمثلها ثلاث صحف رئيسة وثلاث قنوات تلفزيونية فضائية، إلى جانب العشرات من التصريحات الرديفة، بل على مستوى الأقنية الموازية لإعلام الدولة أيضًا، كصحف “الجبهة الوطنية التقدمية”، والإذاعات المحلية، والصحافة الخارجية الموالية، التي خصصت مساحات – مدفوعة الثمن – لترويج خطاب قوي، عن إنجازات متنوعة تشهدها سورية على المستويات كافة.
في ذلك الوقت، لم يكن يُراود المخيلة السورية التي عُبِئت بنمط ثقافي مدروس، تناوبت على تغذيته مُنظمات البعث المختلفة، أنّ تغيرات جوهرية سوف تقلب الطاولة مع بداية العقد الثاني من القرن 21، آتية مع ربيع عربي هبّت رياحه من تونس، وستصل ارتداداته إلى سورية، المُحصّنة، القوية، الممانع نظامها، بخلاف غيره، بحسب الأسد.
كانت الواقعة مفاجئة، ليس لأن الذين خرجوا في شوارع دمشق فحسب، وحمص، وحماة، ودرعا، نادوا بالحرية، والكرامة، وإصلاح النظام، بعد خمسة عقود لم يعرف المواطن فيها طعم الحرية والرفاه الاجتماعي، ركيزتا الحكم الصالح والرشيد، بل لأن الذين رفعوا الهتافات كانوا يُدركون أن الصمود الذي يتحدث عنه دهاقنة السلطة مفسرين أسبابه بطريقتهم، ليس سوى رواية غير واقعية لنظام يُرقّع ثوبه بشعارات لم تعد قادرة على أن تصد هجمة الفقر التي اجتاحت البلاد، وأصابت 7.6 ملايين سوري يرزحون بين خطي الفقر الوطني الأعلى والأدنى. ولا أن تتستر على شريحة اجتماعية مستفيدة تتحكم بـ 75 بالمئة من الدخل الوطني، مقابل 18 مليون مواطن يحصلون على 25 بالمئة منه.
وما بين الاستجابة الفعلية لإصلاح نهج سياسي واقتصادي، قائم على خنق الحريات العامة، هذا الخنق الذي جعل حتى من فكرة “التحديث والتطوير” التي رفع شعارها الأسد بالذات، سياسة مُستعصية على التطبيق، نظرًا للعلاقة المتبادلة بينهما. وما بين اختيار المواجهة، أسهل الحلول المشبعة بنزعة الاستعلاء والإقصاء واستقواء السلطة، مسافة قصيرة جدًا، لم يتمكن الأسد من عبورها بطريقة آمنة، فدفعت سورية ثمن هذا الفشل تكاليف كبيرة، فاقت الـ 254 مليار دولار، أي أكثر بكثير مما كلّفته الحرب العالمية الثانية.
وإلى جانب الخسائر المكلفة إنسانيًا وماديًا، كان مآل الاقتصاد مروعًا، فقد تضاءل مخزون رأس المال البشري، وتدمرت البنية التحتية، وتوقف إنتاج السلع والخدمات، وانخفضت نسبة النمو، وارتفع عجز الميزانية الحكومية، وانخفضت ايرادات الدولة، وهوت قيمة العملة الوطنية إلى مستويات قياسية، وانهار القطاع الصناعي، وهرب الرأسمال الوطني، ولم يعد مُمكنًا قيام استثمارات أجنبية في ظل حرب مفتوحة على البلاد بطولها وعرضها.
بعد ست سنوات من المواجهة التي قررها النظام، تضرر القطاع الصناعي وفق مصادر رسمية سورية بنحو 1000 مليار ليرة، وتراجعت مؤشراته الاستثمارية إلى 0.001 بالمئة، فيما انهار القطاع العام، وأصبح مجرد عنوان لمؤسسات تنتظر الإعلان عن موتها، بعد أن انحصرت قوة السوق بيد أثرياء جدد، غالبًا ما كانوا يُوصفون بالمقربين من النظام.
لم يعد للحديث عن الاكتفاء الذاتيّ من المحاصيل الزراعية الاستراتيجية -جوهر دعايته- أي معنى، لأن المناطق التي زُرعت بالحبوب بموسم 2015/ 2016 كانت المساحة الأصغر على الإطلاق، ولم تتعدَّ المساحة المزروعة بالقمح الـ 900 ألف هكتار، مقارنة مع 1.5 مليون هكتار في سنوات ما قبل المواجهة، فضلًا عن انخفاض إنتاجه بنسبة 55 بالمئة، وفقًا لتقرير “منظمة الأغذية والزراعة” التابعة للأمم المتحدة (الفاو) و”برنامج الأغذية العالمي”.
خسرت سورية في هذا السياق إنتاجها من القمح، وخسرت -أيضًا- ثروتها الحيوانية، فبحسب المصدر ذاته، انخفضت أعداد الأغنام والماعز بنسبة 40 بالمئة، وسجلت أعداد الدواجن انخفاضًا شديدًا وصلت نسبته إلى 60 بالمئة، بعد أن كانت مصدر البروتين الحيواني الأقل سعرًا في البلاد. ونتيجة لذلك، يضيف التقرير: “يواصل الأمن الغذائي تدهوره، حيث يُصنّف أكثر من 7 ملايين شخص في أنحاء البلاد، على أنهم يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بعد أن استنفدوا مُدّخراتهم ولم يعودوا قادرين على إطعام عائلاتهم”.
لقد نهش أثرياء الحرب -في الدولة العميقة- الكعكة وملحقاتها، وأتبعوها بمدخرات فئة الدخل المحدود، ليُنهكوا طبقات المجتمع على اختلاف مستوياتها، قبل أن تتمتع ولو بجزء بسيط من الحماية الاجتماعية المفترضة.
بعد ست سنوات من حرب مُدمرة، كارثية، لم تعد البلاد تُشبه نفسها، فقد وجد المجتمع السوري نفسه عاريًا، أمام معدلات نمو اقتصادي ومؤشرات مادية، مخجلة، تأثرت جميعها بتراجع الناتج المحلي الإجمالي، الذي وصل خلال العام الماضي 2015 نحو 19 بالمئة. وليس من المرجح تحسنه في ظل استمرار الحرب والأثمان الباهظة التي يدفعها نظام الأسد لاستمرار آلته العسكرية، حيث من المتوقع -كما تشير بيانات “البنك الدولي”- أن يُسجل -خلال العام الحالي أيضًا- تراجعًا جديدًا بنسبة 8 بالمئة في نهاية بائسة لقصة يُقال إنها كانت تبيض ذهبًا كلما أشار الإعلام إلى وجود اقتصاد قوي نقلًا عن مصدر مسؤول في الدولة.
[sociallocker] [/sociallocker]