“البَخش الوطني” والتوازن الاستراتيجي


عادل رشيد

“روح خلّي بيّك يشتريلك”. جملة أجهزت على حُلم.

على الرغم من خسارته سبعة أضعاف مثيلاتها العامرة الآهلة، حرر “الرمز” حطام نصف مدينة صغيرة مهجورة، إلا أن النظر إلى نصف الكأس الملآن كان خيارًا وطنيًا حتميًا جامعًا، لا بد منه، ولا رجعة عنه، فاجترحت الجماهير الكادحة بمعيّة الرمز مفهومًا جديدًا للكرة الأرضية، أطلقوا عليه اسم النصر. أما كيف حدث ذلك التفاعل الفكري السوريالي وأنتج هكذا مفهوم؟! سؤال بات بلا قيمة اليوم.

انطلاقًا من التفاعل الفكري السوريالي آنف الذكر ذاته، ألهم المُلهم الجماهير الكادحة، بمعيّة الجبهة الوطنية التقدمية هذه المرة، إلى ضرورة حتميّة أخرى، وهي خلق توازن استراتيجي مع العدو (المهزوم) فكان أن رافقت محاولات ولادة التوازن تلك ضائقة اقتصادية معيشيّة شديدة ألمّت بالعباد وأنهكت البلاد زمنًا طويلًا. وبما أنه خيار وطني حتمي وجامع -أيضًا- ما كان من الجماهير الكادحة -طبعًا- إلا أن صبرت واحتسبت و… توازنت.

آن ذاك، في تلك المرحلة التاريخية من عمر المسيرة النضالية الوطنية، بعنوانها العريض كقافلة للمقاومة والممانعة، قَسّمت الجماهير الكادحة أبناءها إلى أجيال وفئات عمرية مختلفة، وفق تقويم سوري غريب خاص مُبدع تأريخًا وتوثيقًا، صيغ التقويم بحسب السلعة الاستهلاكية، توفرها أو فقدانها من السوق المحلية، فقالت الجماهير: جيل البقرة الحلوب، مواليد النيدو، جيل ما قبل الموز، مواليد جبنة كييري، جيل الزيت الأحمر، مواليد محارم كنار، جيل الحمرا بلا فلتر، مواليد السردين أبو شنب، جيل الإيبلا الزرقاء، مواليد السطل “المبخوش”، وهكذا… وللتوضيح إن غرابة تصنيف هذا الجيل تحديدًا (سطل سمنة النواعير المبخوش) يتسق ويتوافق مع غرابة المفاهيم المُجترحة أساسًا والناتجة عن ذاك التفاعل الفكري السوريالي العجيب! ويوازيه في شدة واتجاه المسيرة الوطنية، ويشكل معه محصلة القوة للنصر وللممانعة والمقاومة وللتوازن الاستراتيجي مع العدو المهزوم؛ إذ حدث أن أوكلت المؤسسات العامة التابعة لوزارة التموين مهمة “بخش” سطل السمن المُباع لموظفين خاصين من ذوي الخبرة والكفاءة بدق المسامير، وذلك حرصًا منها على ألا يباع السطل ثانية في السوق السوداء، فكانت عملية “البَخش” تلك من أهم الممارسات الوطنية التي وقفت سدًا منيعًا أمام استغلال الجماهير الكادحة من قبل عملاء الرجعية والامبريالية، بغض النظر عن أن عملية بيع السطل بعد “البَخش” كانت تتم بطبيعة الحال على رؤوس الأشهاد ما أن يخرج “المبخوش” إلى النور، إلا أنها كانت تجري خارج حرم المؤسسة العامة، وهنا تصبح المسؤولية فردية خاصة لا وطنية عامة، ليجسّد اختيار الجماهير الكادحة بين “المبخوش” داخل المؤسسة الوطنية أو “المبخوش” خارجها، أرفع أشكال حرية المواطن وأبهى صورها، “فبين الباخش والمبخوش يفتح الله”.

يجب ألا نُغفل في هذا السياق أن عملية “البَخش” لم تكن اعتباطية أو عشوائية، فقد أُقرّت بعد عديد اجتماعات تشاورية، ووفق الهيكلية التنظيمية الدستورية للدوائر الحكومية ذات الصلة، وبحضور مندوبين عنها، وبموافقة السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتم اتخاذ القرار بتنفيذها أصولًا وفق قواعد ممارسة الديمقراطية، بإشراف مختصين في “البَخش الوطني”، ذلك بعد مصادقة القيادة القطرية للحزب وموافقتها على عملية “البَخش”، حيث أوصت الأخيرة بتشكيل لجنة مختصة قامت بتحديد طول المسمار أداة “البَخش” وعرضة ونوعه “10سم خشابي”، وتم شراء المسامير عبر مناقصة عامة أعلنت عنها وزرارة التموين في الصحف الرسمية، وقامت بتوزيعها وتسليمها كعهدة على ذمة عمال “البَخش” الذين عُينوا وفق سبر دقيق وعميق لولاءاتهم الوطنية وانتماءاتهم القومية، ونشاطاتهم الحزبية، ما جعل من ذاك المسمار “10سم خشابي” وسامًا رفيعًا يحمله “البخّاش” في جيب بزتّه الرسمية خصوصًا في الاحتفالات والفعاليات والمناسبات الوطنية.

يروى في هذا السياق، أن فتى من جيل ما قبل الموز، كان يلهو في زقاق حارته الضيق؛ يجرّ قطارًا من علب فارغة صنعه أخوه الأكبر، مواليد السردين أبي شنب، ما إن رأى طفلًا من أبناء الجيران يجلس على حجر مهمل أمام باب داره؛ حتى جرّ قطار السردين خلفه باتجاه الطفل، قاصدًا اللعب معه فصُدم بمشهد أذهله، إذ كان الطفل يلتهم إصبع موز، غامر أبوه الذي كان موظفًا “بخاشًا” في أحد المؤسسات التموينية العامة، وهرّب إصبع موز داموري في جيب معطفه الداخلية أثناء اجتماع خاص “للبخّاشين” مع مسؤول كبير في الوزارة، على هامش أحد المؤتمرات القطرية.

قال الطفل للفتى المصدوم وهو يتلذذ بالتهام الموزة على مهل: “شو ولاه! بتحب الموز؟!”

كانت عينا الفتى تلتهم إصبع الموز أسرع من فم الطفل، وأفكاره انثالت بأخيلة طعومٍ مركّبة لا نظير لها لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولكن بقي طعم الإجابة على سؤال صاحب الموزة هو الأهم، فباغته الطفل ثانية بالسؤال الحلو:” ما قلتلي ولاه، بتحب الموز؟؟”، أصبحت الإجابة على السؤال أصعب من التخلي عن حلم يقظته، بقضم قطعة من إصبع الموز الذي بدأ يتلاشى بين أصابع الطفل! كيف سيحرك لسانه ويستخدمه بنطق أحرف نعم معطلًا شعوره المتخيل بالطعم! استجمع الفتى قواه، وكان سؤال الطفل له مرتين قد حسم ارتيابه وشكّه، أصبح مؤمنًا أن قطعة الموز الصغيرة باتت داخل فمه، لكأن إجابة الفتى قد خرجت من عينيه صوتًا جهوريًا واثقًا: “أي والله”.

“روح خلّي بيّك يشتريلك”، قالها الطفل للفتى، بنفس حالة الثقة والحسم، وهو يبتلع آخر قضمه من إصبع الموز الداموري.




المصدر