السوري وزوادة الحلم الكبيرة
26 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
هوازن خداج
عام آخر يلملم أذياله للرحيل، لم يقدّم بوارق حلول يحملها السوريون زوّادة لأيامهم المقبلة، فزادهم للعام القادم مجرد أمنيات يغلّفون بها أيامهم المثقلة بالقهر يلملمون الفقر والعنف والظلم والظلام، وشظايا الألم ليحتموا ببعض الأمل ويحاولوا الصمود ليوم آخر أو عام آخر.
الحاضر السوري يشبه يقظة مترددة من خداع سياسي طال أمده إلى خداع سياسي متبدل الوجهات، فسورية التي جرى تعليبها سابقًا خلف أوهام القومية والعلمانية والانسجام مع الحداثة والتعايش والممانعة يقودها استبداد يحرم السوري حقه بالوطن، جرى تعليبها الآن في حرب يقودها تحالف غريب لبنادق متصارعة تتحد في جولات رصاصها على قتل خيارات شعب ودفعه ليختار ما يقررونه له من وطن. تحالف القتل يصنع وهمه ضمانًا لبقاء ثنائية الخاضع والمخضوع التي تُشهر أسلحتها في وجه السوريين جميعًا، وتتماهى تحت لواء عقيدتها أطياف متنوعة تردم الحاضر، يحمل فيها البعض صفحات أنقاض قادمة من بواطن التاريخ القديم يمشون على خطى مسار مهّدت له قبل 1400 سنة أحاديث ورد فيها ذكر ساحات ومدن وبلدات سيُراق الدم فيها على أرض الشام، يحملون رايات صفراء أو سوداء أو.. يُريقون الدماء في معركة، تم إيهامهم أنها مُقدّسة، لا يهم إن كانت ضد روافض مجوس أم ضد مشركين أو مرتدين كفرة، أم كانت ضد الظلم، فيقتلون ويُقتلون لتحقيق نبوءات دينية، ويحلمون بالموت والبعث. وينبش بعضهم خطوط تاريخ المؤامرة القديمة وتفسيرها السحري الخادع للأمور، المعلّقة منذ سايكس وبيكو، ويُحوّلها إلى نظرية متكاملة تحتاج من يفكك رموزها ويكتشف الأيدي الخفية التي تحيكها، وينسى أن أي مؤامرة إن وُجدت يستحيل عليها النجاح لو لم تجد تربتها الصالحة، فيتآمر بصمته أو برصاص سلاحه على تدمير ما بقي من وجوده. ويستنجد آخرون بوهم أمان ساد تاريخ لم تطو صفحته أمان استبداد يبث سمومه؛ ليقنع كثيرين أن وضعهم كان “أفضل” وكأنه كُتب على السوري أن يغض الطرف عن كل ما يُمارس بحقّه، ويعمل جاهدًا لإطالة عمر الحاكم أو السلطان. والنتيجة الأكيدة لتحالف أسلحة أهوج يشنها من جرى التلاعب بهم وتدجينهم عبارة عن ملهاة دامية، تُفتت الجغرافيا، وتطوي تاريخ شعب جرت فهرسته طائفيًا وإثنيًا، وتُمزّق نسيجه الاجتماعي في يقظة دموية لهويّات خائفة ومخيفة، ووطن وضعت عليه لصاقة الحرب؛ ليستمر في دورات عنف لا تجلب سوى مزيد من الدمار.
وداعُ عامٍ للسوريين، هو جمع آلام تحملها الذاكرة لبيوت وقرى مُدمّرة، لمجازر جماعية واغتصاب وخطف، واضطهاد وجوع، وخريطة مُمزّقة يوزعها من حوّلوا الوطن لمكان إقامة موقتة أو جبرية، الكل محاصَر ضائع يبحث عن منفذ للنجاة، يجده كثيرون في حقيبة السفر يحلمون بالهجرة بحثًا عن زاوية تؤجل موتهم لأعوام أخرى، يحملون خوفهم يتلمسون الضياع بالجغرافيا، جغرافيا خيام قاتلة، وعواصم لا تحتمل الشتات، وأماكن لا تفرح بالغرباء، حتى من هاجر أو هُجّر لا يسلم من الضياع، يحاول التأقلم ويعيش منفيًا، يُحوّل في ذاكرته ما تركه خلفه من أيام الوطن، على الرغم من قحطها، أحلام حياة مشتهاة. أما من تبقى داخل حدود الوطن، فيمسك خوفه ويتوه بحثًا عن أجوبة للبقاء والصمود بوجه الارتحال نحو الهاوية في هذا الموت السريع الذي يحصد الأرواح، والموت البطيء الذي يلتهم أيامًا من يعيش الواقع السوري من الشهود على همجية حاضرة ومتسيّدة، شهود يُغذّون أيامهم بالأمل، يهزّون أشجار الأمنيات علّها مع العام القادم تنزع عنهم هذا القيد الثقيل من الدمار والدماء والعنف الذي بات طقسًا سياسيًا – دينيًا يشبه طقوس القبائل البدائية في استحقاق “الذكورة”، حينما يصل أحدهم لسن الرجولة عليه ذبح أحد “الأغيار” ليتخلص من مخاوفه.
السوري الذي يعرف البداية جيدًا، وكيف تحوّلت حالة الزهو بمستقبل مشرق إلى توحش قاتل، استفزّه سبي بلد عاش تاريخًا من التصحّر والصمت المالح، سيحمل حلمه في وطن يعيش فيه لا عليه، على الرغم من أنه لا يجد من يحميه من فوهات البنادق المتجولة على أكتاف رجال الميليشيات التي تنتزع الحياة والأمان بنفس البساطة التي تنزع فيها السكون حين تطلق زغاريد الموت، وعلى الرغم من قلة إيمانه بالتغيير المقبل من السماء، لأن زمن المعجزات انتهى، وقناعته أن الرهان على الموجود هو رهان فاشل، يُدرك أن رغبة الحياة وإرادتها لا بد أن تنتصر على الموت، واستباحة دماء “الأغيار” والتضحية بهم؛ لبناء ممالك من الوهم على الأجساد، لن تدوم للأبد، فالسوري سيستمر يحمل حلمه بمستقبل آخر، يحرق ما يرسّخه هذا المخاض في الذاكرة.
[sociallocker] [/sociallocker]