بعد حلب ..التهجير والتقسيم
28 كانون الأول (ديسمبر - دجنبر)، 2016
بعد نجاح حلف النظام السوري وروسيا وإيران والميليشيات في السيطرة على كامل مدينة حلب، وتهجير سكانها ومقاتليها إلى الريف الشمالي ومحافظة إدلب، تتجه أنظار هذا الحلف إلى محيط دمشق لاستكمال إخضاع تلك المناطق وترحيل مقاتليها إلى محافظة إدلب، بعد النجاحات التي تحققت على هذا الصعيد من قبل بدءاً بتهجير داريا وصولاً إلى مضايا والزبداني، في حين تنشغل ساحة المعارضة بمحاولات ترميم آثار معركة حلب، وسط محاولات حثيثة من روسيا لاستثمار تلك المعركة سياسياً عبر الدعوة إلى محادثات عاجلة في كازخستان تُرسي أسساً جديدة للحل بعيداً عن مبادئ جنيف.
وقد شددت قوات النظام وميليشيا حزب الله ضغطها العسكري على منطقة وادي بردى شمال غربي دمشق، وحاولت التقدم إلى قرية بسيمة وسط قصف مدفعي وصاروخي وجوي مكثف، بهدف دفع مقاتلي المعارضة في المنطقة إلى الموافقة على صفقة تعد لطرحها عليهم تتضمن ترحيلهم إلى إدلب، وفق السيناريو الذي طبقته في العديد من مناطق ريف دمشق خلال الأشهر الأخيرة.
وفي إطار هذا الضغط على قرى المنطقة، استهدف طيران النظام خلال عدة أيام متوالية بلدة عين الفيجة ونبعها بعشرات الغارات الجوية أصابت إحداها محطات الضخ في النبع الذي يغذّي دمشق بالمياه ما أدى إلى خروجه عن الخدمة واختلاط المازوت والكلور بالماء، وهو ما اتخذه النظام ذريعة لزيادة القصف بدعوى إقدام مقاتلي المعارضة على تلويث مياه النبع عمداً.
وقال ناشطون إن الهدف من هذا الهجوم إجبار مقاتلي المعارضة والمدنيين في قرى وبلدات وادي بردى على القبول بمبادرة يستعد النظام لطرحها عليهم رسمياً خلال أيام على غرار ما جرى في مناطق أخرى بريف دمشق لناحية الترحيل إلى إدلب.
ويتزامن ذلك مع التحضير لاستكمال عمليات الترحيل من مدينة الزبداني و بلدة مضايا باتجاه إدلب بموجب صفقة حلب التي تضمنت إخلاء المنطقتين مقابل إخلاء سكان من بلدتي كفريا والفوعا المواليتين في ريف إدلب.
وفي هذا الإطار، قال محافظ ريف دمشق التابع للنظام علاء إبراهيم “إن المصالحة في منطقة وادي بردى وعين الفيجة مستمرة والمسلحون يحاولون التفاوض على بعض الشروط إلا أنه تم إبلاغهم أن الشروط هي ذاتها التي طبقت في قدسيا والتل”، موضحاً أنها تتضمن “أن تدخل الدولة إلى المنطقة وهي خالية من المسلحين، والمسلح الذي يريد أن يخرج يتم تأمينه، والذي يريد أن يبقى تتم تسوية وضعه، ويتم إعطاء مهلة 6 أشهر للمتخلفين عن الخدمة الإلزامية”.
وتروج وسائل إعلام النظام لمفاوضات تجري بين النظام وبعض مسلحي الوادي بشأن “المصالحة” تتضمن إخراج المسلحين ومن يرغب إلى إدلب، وتسليم الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، وتسوية أوضاع المتخلفين عن الخدمة العسكرية، وفك الحصار عن الوادي، وتشكيل قوات عسكرية موالية للنظام من السكان المحليين مهمتها حماية المنطقة.
ويستعجل النظام لإخلاء منطقة وادي بردى لأن فيها نبع عين الفيجة وأنبوب لنقل مياه نبع بردى إلى دمشق واللذان يزودان دمشق بأكثر من 80 في المئة من حاجتها من المياه، واتهمت مصادر النظام المعارضة بتعمد تلويث نبع عين الفيجة عبر سكب مادة المازوت في مجرى النبع، الأمر الذي نفته المعارضة وأكدت أن قوات النظام والميليشيات المساندة لها قصفت النبع جواً وبراً بكافة أنواع الأسلحة ما أدى إلى دمار كبير بالنبع وخروجه عن الخدمة وتعطل المضخات واختلاط المياه بالمازوت والكلور.
وأضافت أن استمرار انقطاع الكهرباء عن كامل قرى وادي بردى وعن منشأة النبع يؤدي أيضاً لانقطاع مياه النبع عن دمشق وريفها فضلاً عن تعطل المضخات.
ويقدر عدد سكان قرى وبلدات وادي بردى بحسب إحصائية للمجلس المحلي في المنطقة بنحو 90 ألف نسمة، أغلبهم من النازحين من مدينة الزبداني ودوما وجوبر وقرية هريرة وغيرها من المناطق في ريف دمشق، وتعيش المنطقة تحت حصار خانق من جانب قوات النظام وميليشيات حزب الله.
تهجير الجنوب
ولا تقتصر مساعي النظام على منطقة وادي بردى، بل تعمل باجتهاد على تعميم تجارب التهجير على مجمل مناطق ريف دمشق وصولاً إلى القنيطرة ودرعا تحت يافطة “المصالحات” التي تدور كلها في الفلك نفسه، وتتضمن ترحيل المسلحين في المنطقة المحاصرة والمستهدفة بالقصف ومحاولات الاقتحام إلى إدلب، مقابل فك الحصار جزئياً والسماح بإدخال مواد غذائية ومساعدات طبية و”تسوية” أوضاع المتخلفين عن الخدمة العسكرية والمنشقين، مع تشكيل قوات محلية لحفظ الأمن بالتنسيق مع قوات النظام، وعودة مؤسسات النظام للعمل كالمعتاد في هذه البلدات.
وبعد سلسلة من “المصالحات” بدأت في داريا التي تم ترحيل مقاتليها وسكانها في آب اغسطس الماضي، مروراً بالمعضمية ودمر والهامة وقدسيا والتل وخان الشيح مع مجمل مناطق الغوطة الغربية وآخرها زاكية، تتجه جهود النظام إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة مقاتلي المعارضة في جبل الشيخ، والتي تخضع للحصار من جانب قوات النظام والميليشيات من جهة، وتعاني من خلافات بين الفصائل، مع غياب الدعم عنها من جهة أخرى، وهو ما تجلى في فشل معظم العمليات العسكرية التي أعلنت عنها تلك الفصائل مؤخراً ضد قوات النظام.
وتقود عملية “المصالحة” المذيعة في تلفزيون النظام كنانة حويجة، وهي ابنة أحد الضباط المرموقين في جيش النظام، وكان لها دور مماثل في العديد من مدن وبلدات ريف دمشق والتي أسفرت في النتيجة عن ترحيل مقاتلي المعارضة فيها، وتسليم تلك المناطق لقوات النظام.
ونظراً لحساسية المنطقة وقربها من فلسطين المحتلة، يبدو أن النظام وبالتنسيق مع الروس، موافق على بقاء الاهالي والمقاتلين في مناطقهم، وهو يقدم عروضاً أفضل مما قدمه في المناطق الأخرى مثل ألا يخدم أي متخلف عن الخدمة العسكرية أو منشق أو احتياط في جيش النظام، فيما يتم تسوية أوضاع من يرغب في إلقاء السلاح والعودة إلى حياته الطبيعية، مع إعفاء الناس من فواتير الكهرباء والماء وعودة الموظفين إلى وظائفهم.
وكانت قوات النظام توصلت إلى اتفاق تسوية مع أهالي بلدة “زاكية” في ريف دمشق الغربي، يقضي بـ”تسوية أوضاع” المتخلفين والمنشقين والمطلوبين الراغبين بالتسوية، وإعطاء المتخلف والمنشق مدة 6 أشهر لتسوية وضعه، لكن يحق له ضمن هذه المدة، حسب ادعاءات النظام، الخروج إلى أي مكان.
ونشرت صفحات موالية للنظام على مواقع التواصل الاجتماعي صوراً قالت إنها لاجتماع محافظ القنيطرة مع وفد روسي ضم عدداً من الضباط، تم خلاله مناقشة وضع المصالحات الوطنية بالمحافظة، وذلك استكمالاً لمشاريع مماثلة بدأتها قوات النظام السوري مطلع هذا العام شملت عدة مناطق بريف القنيطرة الأوسط.
وتشير تقديرات إلى أن عدد مقاتلي فصائل المعارضة في القنيطرة وريفها يصل إلى نحو 2000 مقاتل، موزعين على عدد من التشكيلات التابعة للجبهة الجنوبية وحركة أحرار الشام وجبهة فتح الشام، يسيطرون على العديد من البلدات والقرى. غير أن مقاتلي المعارضة في القنيطرة يخضعون لحصار منذ أكثر من سنتين، وخلال الأشهر الماضية حاولوا مرات عدة كسر هذا الحصار بالتعاون مع قوات المعارضة في درعا، وآخر ذلك قبل شهرين لكنهم لم ينجحوا في ذلك.
ويلعب مركز التنسيق الروسي بقاعدة حميميم دوراً متزايداً في هذا الموضوع حيث أصبحت بيانات المصالحة تصدر عنه، ترافق ذلك مع استقبال المركز لعدد من الوفود التي كانت قد دخلت بمصالحات سابقة مع النظام.
وأظهرت تقارير إخبارية مصورة لقنوات موالية للنظام مجموعة من الجنود الروس بالزي العسكري في أحد الصالات التي شهدت ما أطلق عليه “مؤتمر مصالحة الجنوب”، وجرى خلاله إعلان إنجاز اتفاق مصالحة مع وجهاء بلدة إبطع في ريف درعا الشرقي، كما تم الإعلان عن تحضيرات لضم كل من طفس ونوى وبلدات أخرى لهذا الاتفاق. كما أعلن عن “مصالحة” شاملة في مدينة الصنمين، وتسوية أوضاع أكثر من 500 شخص، وتسليم أسلحة 150 مسلح للفرقة التاسعة، بينهم قائد لواء الأبابيل وعناصره.
يأتي ذلك بالرغم من محاولة بعض فصائل المعارضة في الجنوب الوقوف في وجه هذه المصالحات، حيث هددت وخوّنت كل من يمشي بهذا الطريق.
احتلال حلب
وتزامن ذلك مع سقوط مدينة حلب بالكامل في يد قوات النظام والميليشيات يوم 23 الماضي بعد خروج آخر دفعات من المدنيين والمقاتلين من الأحياء الشرقية في المدينة، وذلك بعد حملة عسكرية شرسة على المدينة استمرت نحو شهرين، ما أسفر عن مقتل وإصابة آلاف المدنيين، فضلاً عن الدمار الذي لحق بالبنى التحتية والمنشآت الخدمية، وفي مقدمتها المشافي.
وفور خروج المقاتلين أقدمت ميليشيات إيران على تنفيذ اعدامات ميدانية بحق ستة شبان في حي الصاخور شرقي حلب، الذي احتلته مؤخراً.
كما لاحقت الغارات الجوية النازحين إلى الريف الشمالي حيث قتلت غارة جوية 6 مدنيين، في مدينة الأتارب بريف حلب، مستهدفةً مركز إيواء للنازحين القادمين من حلب.
ويعاني النازحون في ريف حلب أوضاعاً صعبة حيث توفي طفلان في مخيم روبار بمحيط مدينة عفرين في ريف حلب الشمالي نتيجة البرد القارس وعدم توفر مراكز إيواء المهجرين على وسائل للتدفئة.
وفي وقت سابق توفي ثلاثة أطفال وامرأتان ممن تم إجلاؤهم من مدينة حلب، نتيجة البرد خلال إقامتهم في خيمة بمنطقة “إيكاردا” جنوب المدينة.
كما تسببت العاصفة الثلجية التي ضربت ريف إدلب بانهيار 70 خيمة داخل مخيم صغير مكون من نحو 200 خيمة في مدينة حارم أقيمت بشكل عشوائي لأجل النازحين، وذلك بعد تراكم الثلوج فوقها ما أدى مقتل طفلين اثنين.
من جانبه، قال وزير الغابات وشؤون المياه التركي ويسل آر أوغلو أن بلاده بدأت بناء مخيم للمهجرين من أحياء حلب الشرقية، في محافظة إدلب شمالي سورية وأنه سيتم بناء ثلاثة مخيمات في المناطق الآمنة بإدلب من المقرر أن تستوعب 80 ألف نازح من مختلف مناطق النزاع في سورية.
الاستثمار السياسي
وسَعَت روسيا سريعاَ إلى استثمار ما جرى في حلب سياسياَ حيث دعت إلى عقد مفاوضات سياسية في كازخستان في حين اجتمع وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران في أنقرة لوضع أسس للتحرك السياسي في المرحلة المقبلة.
ورأى مراقبون أن البيان الثلاثي الروسي الايراني التركي يحمل في طياته مخاطر جمة على حاضر ومستقبل سورية، ويرهن مصيرها بإرادة ثلاث دول غير عربية، لكل منها أجندة خاصة وتسعى إلى تحقيق مصالحها بالدرجة الأولى.
وأشار هؤلاء بشكل خاص إلى ما تضمنه الإعلان بأن سوريا دولة ديمقراطية علمانية تضم مذاهب وأعراق مختلفة، وهو ما قد يكون مقدمة لتقسيم البلاد أو إقامة نظام فيدرالي باعتبار أن الأغلبية السنية قد ترفض علمانية الدولة وتطالب بإقامة نظام خاص بها أي الذهاب إلى الحل الفيدرالي، وبحيث تقوم كل مجموعة دينية أو عرقية باختيار شكل القانون الذي تريد العيش في ظله.
كما لفت هؤلاء إلى أن هناك فرقاً بين اعتبار سوريا دولة فيها أقليات دينية وعرقية، كما هو واقع في الحقيقة، وبين وصفها كما جاء في البيان الثلاثي بأنها دولة متعددة الأعراق والديانات، والذي يعني أن أي نظام حكم يجب أن يقوم على حماية حقوق هذه الأعراق والديانات كمجموعات سياسية متميزة عن بعضها البعض وهذا يعني التجسيد الواقعي للنظام الفيدرالي القائم على الطوائف والأعراق، أي انتصار المشروع الإيراني الهادف لتمزيق المشرق العربي على أسس طائفية.
كما أن البيان يعتبر الدول الثلاث، بما فيها إيران شريك النظام في عمليات القتل والتهجير، هي راعية للحل السياسي المستقبلي، ويدعو الدول الأخرى أي أميركا وأوروبا والسعودية وقطر إلى دعم هذه الجهود، أي قطع مساعداتها للمعارضة السورية، واعتبار أن هذه المساعدات تعيق الحل السياسي.
كما أن الدول الثلاث تعمل على تثبيت فكرة أن ما حدث في حلب هو إجلاء طوعي للسكان وهو ما يمنع لاحقاً من إثارة هذا الموضوع على الصعيد القانوني سواء من ناحية المحاسبة أو من ناحية المطالبة بعودة السكان إلى مناطقهم.
[sociallocker] صدى الشام
[/sociallocker]